شاركتُ الأسبوع الماضي في المؤتمر العالمي للدفاع عن أمّنا الأرض، الذي انعقد في العاصمة الفنزويلية كاراكاس يومي التاسع والعاشر من أكتوبر، بمشاركة ممثلين من أكثر من ثلاثٍ وستين دولة. لم يكن هذا المؤتمر، في تقديري، مجرد ملتقى بيئي لمناقشة قضايا المناخ، بل كان منبرًا سياسيًا وفكريًا عبَّرت فيه دول الجنوب العالمي عن وعيٍ جديد، يدرك أن معركة البيئة هي الوجه الآخر لمعركة العدالة في النظام الدولي.
في عمقه، كان المؤتمر مسرحًا لصدامٍ فكريٍّ وحضاريٍّ بين عالمين: شمالٍ يملك المال والتكنولوجيا ويتحدث باسم الكوكب، وجنوبٍ يملك الأرض والموارد ويتحدث باسم البقاء. هناك، في كاراكاس، التقى ما يقارب ثلاثة آلاف مشارك ليعيدوا طرح السؤال الذي ظل بلا إجابة: من دمّر الكوكب؟ ومن يُطالَب اليوم بدفع الثمن؟
منذ الجلسة الافتتاحية، كان واضحًا أن المتحدثين لا يناقشون "الاحتباس الحراري" فقط، بل اختلال النظام الأخلاقي في العالم. ففي خطاب قوي ومباشر، نددت نائبة الرئيس الفنزويلي ديلسي رودريجيز بما سمّته "الاستعمار البيئي" الذي تمارسه دول الشمال الغني -تلك الدول التي أفسدت البيئة ثم تطالب شعوب الجنوب بدفع ثمن الإصلاح. قالت بوضوح: ما يجري اليوم ليس "تحولًا أخضر"، بل "استعمار بيئي جديد" يُمارس تحت شعار حماية الأرض.
العالم الصناعي -كما أوضحت- لم يكتفِ بما نهبه من ذهبٍ ونفطٍ وعرقِ أجيالٍ بأكملها، بل يسعى الآن إلى الاستيلاء على موارد جديدة تُسمّى "المعادن الخضراء"، مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل، وهي المواد التي تقوم عليها ثورة السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، لكنها تُستخرج من أراضي الجنوب وتُصنَّع في مصانع الشمال.
بهذه الصورة، لم تتغير الرأسمالية في جوهرها، بل في لغتها فقط؛ فبينما تُلقي دول الشمال المحاضرات عن المناخ والاحتباس الحراري، تواصل إنتاجها واستهلاكها بنهمٍ لا يعرف حدودًا. قالت رودريجيز بوضوح إن النظام الرأسمالي هو أصل الكارثة، وإن ما يسمى "التحول الأخضر" ليس سوى مهزلة كبرى، مشيرة إلى أن أغنى 1% من سكان العالم يستهلكون نصيبهم العادل من الكربون في عشرة أيام فقط من العام، بينما يعيش مئات الملايين بلا كهرباء أو مياه نظيفة.
ومن موقعي في القاعة، شعرت أن الكلمات لم تكن شعاراتٍ أيديولوجية، بل صرخةً إنسانية صادقة خرجت من عمق الجنوب. فالشمال الغني الذي لوّث الأرض وفشل في الوفاء بوعوده بخفض الانبعاثات وتمويل التكنولوجيا النظيفة، هو نفسه الذي يفرض اليوم على الجنوب سياساتٍ وقيودًا تُجهد اقتصاده باسم "التحول الأخضر".
في مواجهة هذا الواقع، طرح الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، ومعه الحركات الاجتماعية، رؤية جديدة هي "الاشتراكية البيئية"؛ نظام يجعل الاقتصاد في خدمة الطبيعة لا العكس، ويعيد الاعتبار للزراعة التجديدية وللغذاء العضوي، ويدعو إلى سداد "الدين البيئي التاريخي" الذي راكمته دول الشمال منذ الثورة الصناعية.
وفي النقاشات التي شاركتُ فيها، بدا واضحًا أن المشاركين ينظرون إلى البيئة كقضية سيادة وعدالة وكرامة إنسانية، لا كملفٍ فني أو علمي. وكان هناك اتفاق واسع على أن مؤتمر المناخ المقبل COP30 في البرازيل يجب أن يكون منصة للمطالبة بـالعدالة البيئية -لا بوصفها منحة من الشمال، بل حقًّا أصيلًا لشعوب الجنوب.
رجعتُ من كاراكاس إلى القاهرة وأنا أكثر اقتناعًا بأن الجنوب العالمي يعيش تحولًا في لغته وموقفه: من الدفاع إلى المبادرة، ومن التبرير إلى المطالبة، ومن الاستماع إلى الحديث بصوتٍ عالٍ وواضح.
لقد كانت كاراكاس، المدينة التي تمتزج فيها رائحة البن بالهواء الاستوائي وصوت الثورة، رمزًا لهذا التحول. فالمؤتمر الذي ضم 173 مندوبًا دوليًا من 63 دولة، من بينها مصر، وأكثر من ألف ممثل من الحركات الاجتماعية، لم يُعقد في مدينة أوروبية ولا في عاصمة صناعية، بل في قلب الجنوب، حيث تتحدث الأرض بلغتها الأصلية.
إن ما حدث في كاراكاس لم يكن مجرد نقاش بيئي، بل رسالة سياسية للعالم تقول إن الدفاع عن الكوكب لم يعد شأنًا علميًا أو "أخضر اللون"، بل أصبح قضية تتعلق بالسيادة والعدالة والكرامة الإنسانية.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة الكبرى، وهي أن مستقبل الكوكب سيتحدد بين "اشتراكية خضراء" تنادي بها شعوب الجنوب و"رأسمالية خضراء" تسوّقها دول الشمال. وبين هذين الخيارين، سيُرسم مصير الأرض. فإما أن نبرم عقدًا بيئيًا عالميًا جديدًا لا يترك أحدًا خلفه، أو نترك كوكبنا يواجه مصيره المحتوم.
* رئيس وحدة العلاقات الدولية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية