أكتوبر المصري وصناعة التحول

13-10-2025 | 13:11

لم تكن مبالغة أو مجازًا شعريًا يطرب الآذان ما سطرّه شاعر النيل الشاعر الكبير الراحل حافظ إبراهيم، في رائعته الخالدة "مصر تتحدث عن نفسها"، والتي شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم، في البيت الذي يقول: "أنا تاجُ العلاء في مفرق الشرق.. ودُراته فرائد عقدي"، وكذلك قوله: "أنا إن قدَّر الإله مماتي، لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي". ذلك أن جميع الشواهد عبر التاريخ القديم والحديث، وصولًا إلى لحظتنا الراهنة، وعبر الزمان والمكان، تؤكد هذا المعنى وهذه الحقيقة الأزلية.

ومثلما غيرت حرب ونصر أكتوبر المجيد موازين القوى في العالم، تبقى مصر بوصلة هذا العالم تضبط الموازين وتغيرها، بإرادتها وقتما شاءت وكيفما شاءت، ويبقى أكتوبر أيقونة النصر وصناعة التحول، ولا أزال أردد بأن هذا الشهر العظيم، يأتي حاملًا معه نسائم المجد، التي عبرت من شرفة الأجداد، لتعم آفاق البلاد، طالما كانت المعادلة مصر، التي جعلت من الحدث رمزًا للنصر باقيًا وواقعًا للعبور متحققًا، باستمرارية فكر النصر ومنهجه.

وفي الوقت الذي نستعيد فيه سير الأمجاد والبطولات، تأبى مصر وتأبى هذه السيرة العطرة أن تبقى مجرد سيرة واستدعاءٍ لماضٍ تليد، حتى نحصد حاضرًا زاخرًا بالانتصارات، وليتضاعف شعورنا بالفخر والعزة، بل والخيلاء لأننا ننتمي إلى هذا الوطن العصي على السقوط أو التراجع، بل إنه الوطن الذي يُزيح أي عواقب تظن أنها سوف تعيق تقدمه وتبوّءه الريادة والشموخ، فيواصل المسير بقلب جريء وإيمان ويقين بنصر الله وسداده، وتتوالى الخطوات والأخبار المبهجة التي تليق بهذا الوطن العريق.

ويفوز ابن مصر النابه الدكتور خالد العناني وزير السياحة السابق، بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو، بفوز كاسح، بعد حصوله على خمسةٍ وخمسين صوتًا، من أصل سبعةٍ وخمسين، لينتخب مديرًا عامًا للمنظمة العالمية المعنية بالعلوم والتربية والثقافة.

وإن كان هذا الفوز إنجازًا تاريخيًا يُضاف إلى السجل الثقافي والدبلوماسي المصري، وإلى إنجازات الشعوب الإفريقية والعربية، فإنه بالتوازي وربما أكثر يُعد تشريفًا كبيرًا للمنظمة أن يكون على رأسها مدير من بلاد الحضارة الأعرق والتاريخ الأزهى، ليس فقط في الثقافة والعلوم، وإنما في مجالات الحياة كافة، لمصر السبق.

وهو الأمر ذاته الذي يُفسر إنجاز تأهل منتخبنا الأول لكرة القدم رسميًا إلى نهائيات كأس العالم 2026، وضمانه بطاقة العبور إلى المونديال المقرر إقامته في المكسيك وكندا والولايات المتحدة، بعد تصدره مجموعته في التصفيات الإفريقية بجدارة وتفوق بقيادة مدير فني وطني اسمه حسام حسن، شارك في المونديال لاعبًا، وها هو يشارك فيه مديرًا فنيًا.

ولا تتوقف نفحات أكتوبر المصري العابرة للآفاق، لتأتي اللحظة التي ستُخلدها ذاكرة تاريخ الأرض، وترعى مصر الأبية اتفاقًا لوقف إطلاق النار في غزة المكلومة، بين حركة حماس والاحتلال الصهيوني البغيض. هذه الرعاية المصرية للاتفاق الذي كان العالم كله ينتظره، أكدت لشعوب العالم التي انتفضت واحتجت لوقف المجازر، ولحكومات العالم سواء النزيهة أو المتواطئة، بأن القاهرة لم تزل وسوف تبقى، أبد الدهر، قلب العروبة النابض، وصاحبة الكلمة الأولى التي يجب أن يُسمع لها حين يتحدث العقل وتسكت أصوات البنادق. فهذا الاتفاق لم يكن مجرد أوراقٍ يتم توقيعها والسلام، بل إنه صفحات تخط مداد الحكمة والقوة والفاعلية والتأثير وتحريك المؤشر السياسي وفق ما تقتضيه الرؤية المصرية والدبلوماسية الواعية الرزينة، التي أنهت بكلمتها القاطعة، ساعات وأيامًا وشهورًا متواصلة من العناء والظلم والفُجر بحق أبناء غزة المفجوعين في وطنهم وديارهم وذويهم، ولتدق مصر نقطة النهاية لحرب بربرية وأكبر إبادة ومجزرة يشهدها التاريخ الحديث، وتعيد لأهالي غزة العائدين إلى مدنهم وأحيائهم حقهم في الحياة، ولتغرس زهرة الأمل في نفوس أطفالها الحالمين بحياة آمنة مطمئنة، ولتمنح المنطقة بأسرها قبلة الحياة والنجاة من العبث والجنون على يد المحتل الغاشم.

إن هذا الاتفاق الذي شهدته قبلة السلام للعالم مدينة شرم الشيخ، وإن كان واحدًا من المحطات الأبرز في رحلة الجهود المصرية المكثفة الواثقة في هذا الملف، فلن يكون المحطة الأخيرة، بل إنه بداية جديدة وتحول جديد في مسار وملامح المنطقة بأسرها. هذا الاتفاق هو الثمرة الناضجة لشجرة السلام الممزوج بالقوة التي غرستها القيادة المصرية بيدٍ عَفِيَّة، منذ الاستمرار في الدعم التاريخي للقضية الفلسطينية، ومرورًا بالموقف الثابت الراسخ لرفض التهجير، وتدويل قضية أبناء فلسطين المحتلة في كل محفل وفي كل زيارة وفي كل لقاء ومع أي فرصة سنحت لذلك، وتحدي المستحيل والتهديدات ولم يحل شيء دون استمرار الدولة في إدخال المساعدات والطعام إلى أبناء القطاع الذين أنهكهم النزوح، واستقبلت الجرحى والمصابين لتعالج الآلاف منهم على أرضها، وانخرطت في كل المساعي ووضعت البنود والأُطر المتوازنة لوقف إطلاق النار وإعادة الحق لأبناء الأرض، وتتصدى الآن لطرح الأفكار الناجعة لتضافر جهود إعمار قطاع غزة وإعادة البناء وتشييد ما تهدم من مرافق القطاع وبنيته التحتية والسكنية. فمصر لها من القدرات الفذة في هذا الصدد، ولها رؤيتها الواضحة، التي تفرضها عوامل التاريخ والجغرافيا والتفاعل الإنساني، وهي التي دفعت بجهودها كثيرًا من دول الغرب إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، التي نادت ولم تزل مصر بأحقية وجودها وعاصمتها القدس الشرقية.

وها هي مصر ذات الرسالة والثقل والتاريخ والسيادة، تنتصر لنهجها ورؤيتها التي بثتها منذ فجر التاريخ، كقوة لا يُستهان بها صانعة للسلام، لا تابعة أو خاضعة، مهما بدا في ملامح السياسة الدولية والصراعات والحروب من قوى وأقطاب كبرى، لتؤدي دورها بعزف منفرد يشهده العالم. هذا الدور الذي يعد امتدادًا طبيعيا لتاريخها. هذه الضريبة التي دفعوها من حياتهم لينالوا من بعد حريتهم وليبقَ لهم دولتهم، ودائمًا وأبدًا في ظهرهم داعمٌ لقضيتهم، مصر العروبة، الأم بحق والرائدة بحق والشجاعة بحق والكبيرة رغمًا عن الذين يحاولون الاستطالة عنوة، فينكسرون، ولا يبقى منهم سوى الثغاء.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة