حين تنتصر الدبلوماسية الهادئة على فوضى الدم

13-10-2025 | 12:23

لم يكن مشهد قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعدد من قادة العالم إلى شرم الشيخ لتوقيع اتفاق وقف الحرب، مجرد لحظة دبلوماسية عابرة، بل تتويج حقيقي لدور مصر الممتد عبر عامين من الجهد الصامت والعمل المتواصل. أن يعود العالم إلى مصر، وأن تصبح شرم الشيخ مجددًا منصة لصناعة السلام، هو في حد ذاته شهادة دولية على أن القاهرة استعادت موقعها كعاصمة القرار في الشرق الأوسط، وأن صوتها بات المرجع الوحيد القادر على ضبط إيقاع الإقليم بين النار والسياسة.

في تلك اللحظة التاريخية، لم يكن ما تحقق وليد المصادفة، بل نتيجة تخطيط دقيق وقراءة إستراتيجية متأنية، قادتها الدولة المصرية بمؤسساتها الدبلوماسية والأمنية، وفي مقدمتها جهاز المخابرات العامة ووزارة الخارجية بقيادة الوزير بدر عبدالعاطي، تحت إشراف مباشر من الرئيس عبدالفتاح السيسي. فقد استطاعت القاهرة أن تجمع الأطراف المتنازعة -الإسرائيليين والفلسطينيين، ومعهم الرعاة الدوليون والعرب- على مائدة واحدة بعد شهور من الانغلاق والدمار، لتفتح نافذة أمل في سلام ممكن، لا يقوم على الإملاء، بل على التوازن والاحترام المتبادل.

لقد أدارت مصر مفاوضات شرم الشيخ بحرفية بالغة، جمعت بين الحسم والهدوء. لم ترفع شعارات، لكنها فرضت وقائع. كانت مصر تتحدث بلسان القوة الهادئة التي تعرف ما تريد: وقف الحرب فورًا، ورفض أي شكل من أشكال التهجير أو إعادة رسم الخرائط الديموغرافية.

وفي مواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية، حافظ المفاوض المصري على ثوابته بثقة وإصرار، مؤكدًا أن الأمن القومي المصري والعربي خط أحمر، وأن حماية الشعب الفلسطيني لا تنفصل عن حماية الاستقرار الإقليمي برمته.

هذا النجاح في شرم الشيخ لم يكن بداية، بل تتويج لمسار طويل من العمل الشاق خلال العامين الماضيين. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة، خاضت القاهرة معركة مزدوجة: معركة على الأرض لحماية حدودها من نيران الفوضى، ومعركة في الكواليس لوقف نزيف الدم.

فبينما كانت بعض القوى تسعى إلى فرض واقع جديد عبر سيناريوهات التهجير القسري من غزة إلى سيناء، وقفت مصر بثبات مذهل أمام تلك المخططات. لم يكن الرفض المصري مجرد موقف سياسي، بل إعلان صريح بأن سيناء التي تحررت بالدم لا يمكن أن تكون بديلًا عن أي أرض عربية.

كانت الرسالة التي نقلتها القاهرة إلى العالم واضحة كالشمس: من يفكر في تجاوز الخطوط الحمراء، سيصطدم بجدار الإرادة المصرية. ومن تلك اللحظة تبددت مشاريع التهجير، وتراجع أصحابها إلى صمت ثقيل، بعدما أدركوا أن مصر لا تُساوم على أمنها أو تاريخها.

خلف الأبواب المغلقة، كانت المخابرات العامة المصرية تقوم بدور محوري في إدارة الاتصالات بين الأطراف المتنازعة، وتنسج خيوط التفاهم بصبر واحترافية. فهي التي أعادت بناء الثقة المنهارة بين الفصائل الفلسطينية، وفتحت قنوات اتصال غير مباشرة مع الجانب الإسرائيلي، وساهمت في بلورة أرضية مشتركة لوقف النار أكثر من مرة.

وبينما كانت شاشات العالم تمتلئ بصور الدمار، كانت القاهرة تعمل في صمت على هندسة التهدئة، وتضمن بقاء خيط الاتصال قائمًا حين كان الجميع يعلن القطيعة.

في موازاة ذلك، لعبت الدبلوماسية المصرية بقيادة الوزير بدر عبدالعاطي دورًا بارزًا في تحريك المواقف الدولية، متنقلة بين العواصم الكبرى لإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العالمي، ودفع المجتمع الدولي إلى تبني مواقف أكثر توازنًا.

ومن نيويورك إلى بروكسل، ومن العواصم العربية إلى البيت الأبيض، حملت القاهرة صوت المنطقة العاقل، ورفضت اختزال الصراع في معادلات أمنية ضيقة.

نجحت مصر في إعادة تعريف مفهوم "الوساطة"، ليس بوصفها قناة اتصال فحسب، بل كقوة إقليمية تمتلك رؤية إستراتيجية شاملة ترى في السلام ضرورة لحماية الأمن لا مكافأة بعد الحرب.

وفي الوقت الذي كانت فيه بعض القوى تلوّح بالحلول العسكرية أو الفوضوية، كانت مصر تقدّم نموذجًا آخر: قوة مسئولة تستخدم نفوذها لخدمة الاستقرار، لا لتوسيع النفوذ. ففتحت معبر رفح للمساعدات، واستقبلت الجرحى، ونسّقت مع الأمم المتحدة لإدخال الإغاثة، لتُثبت أن الإنسانية ليست شعارًا بل سياسة دولة.

هذا المزيج بين القوة الإنسانية والصلابة السياسية هو ما منح الموقف المصري احترامًا دوليًا واسعًا، وجعل القاهرة المرجعية الوحيدة التي يثق بها الجميع.

إن ما جرى في شرم الشيخ اليوم هو النتيجة الطبيعية لتلك المعادلة المصرية الدقيقة التي تجمع بين العقل والردع، المبادئ والمصالح، الثبات والمرونة.

فالقاهرة لم تبحث عن الأضواء، بل عن النتائج، ولم تتاجر بدماء الشعوب، بل سعت لحمايتها. ومن هنا، كان انتصارها الحقيقي: أن تفرض صوتها الهادئ فوق ضجيج البنادق، وأن تحوّل مسار التاريخ من الفوضى إلى التفاهم.

لقد أكدت التجربة أن الدبلوماسية الهادئة ليست ضعفًا، بل أعلى درجات القوة. فمصر لا تحتاج إلى صخب لتثبت حضورها، بل يكفيها أن تتكلم حين يصمت الجميع.

واليوم، بينما يوقع قادة العالم اتفاق السلام في شرم الشيخ، يتأكد أن ما تحقق هو نصر للسياسة المصرية، وللمدرسة التي جمعت بين صرامة الدولة وحكمة القيادة.

لقد انتصرت مصر دون أن تطلق رصاصة؛ لأنها امتلكت السلاح الأندر في هذا الزمن: سلاح العقل الهادئ والإرادة الثابتة.

وهكذا، مرة أخرى، كانت النتيجة واضحة كما العنوان:

حين تنتصر الدبلوماسية الهادئة على فوضى الدم.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة