حين نتقدم في العمر، يصبح وقع الكلمات أثقل في نفوسنا؛ فابتسامة صادقة، أو كلمة دافئة، قد تبدو صغيرة في ظاهرها، لكنها في داخلها تحمل قوة تشبه مفعول السحر أو الدواء.
هنا يطل علينا مفهوم جبر الخواطر، الذي اعتدنا أن نسمع عنه باعتباره فضيلة إنسانية، فإذا بالعلم اليوم يكشف أنه أيضًا ضرورة صحية ونفسية.
دراسات علم النفس الإيجابي تؤكد أن التقدير المعنوي والاحتواء في لحظات الانكسار، يُنشطان مناطق في الدماغ مرتبطة بالأمان، ويُفرزان هرمونات السعادة مثل الدوبامين والأوكسيتوسين.
وهذا لا يحدث فقط مع من يتلقى الكلمة الطيبة، بل أيضًا مع من يقدمها. بمعنى آخر، حين تجبر بخاطر غيرك، فأنت في الحقيقة تجبر بخاطر نفسك أيضًا، والدليل على ذلك راحتك النفسية بعد هذا الفعل.
وتزداد أهمية ذلك لدى كبار السن؛ ففي هذه المرحلة، يكون الإنسان أكثر حساسية تجاه نظرات التقدير أو التجاهل، وأشد حاجة إلى الشعور بأنه ما زال جزءًا فاعلًا ومحل تقدير في محيطه.
دراسة في جامعة هارفارد أظهرت أن كبار السن الذين يعيشون في بيئة داعمة ومليئة بالاحتواء، يتمتعون بمناعة أقوى، ومستويات أقل من الاكتئاب، ويعيشون حياة أطول وأكثر رضا.
والأطباء يتحدثون عن أثر ملموس لذلك، فالكلمة الحانية قد تخفف من إفراز هرمون التوتر "الكورتيزول"، وتحافظ على ضغط الدم في مستوياته الطبيعية، وتُسهم في حماية القلب، بل وتجبر كسره.
ولأن الإنسان بعد الخمسين يبدأ رحلة مراجعة الذات وتخفيف الأعباء، فإن أبسط صور جبر الخواطر (سواء كلمة امتنان، أو سؤال صادق عن الحال، أو مشاركة همّ) تصبح كفيلة بترميم ما قد يكسره الزمن من الداخل.
وعلماء الاجتماع يشيرون إلى أن المجتمعات التي تسودها ثقافة التعاطف والتقدير تحافظ على تماسكها، وتمنع أفرادها من الانزلاق إلى العزلة أو فقدان الثقة.
ولعل أجمل ما في جبر الخواطر أنه لا يتطلب إمكانيات مادية ولا خططاً معقدة، بل يبدأ من أبسط التفاصيل؛ كأن تكون مكالمة هاتفية، أو زيارة سريعة، أو حتى رسالة محبة عبر "الواتس" وغيره من وسائل التواصل. هذه الإشارات البسيطة قد تضيء حياة شخص في وقت ظن فيه أنه قد طواه النسيان ولا أحد يراه.
أحد الأمثلة التي يرويها علماء النفس، وفق الدراسات العلمية، أن كبار السن الذين يتلقون دعمًا معنويًا مستمرًا من أبنائهم وأصدقائهم، يقل لديهم الإحساس بالوحدة بنسبة تتجاوز 40% مقارنة بغيرهم.
وهذا فارق كبير، لأن الوحدة في هذه المرحلة العمرية قد تتحول إلى مرض صامت أخطر من الضغط والسكر.
لذا لم يكن جبر الخواطر مجرد قيمة إنسانية عامة، بل هو من صميم رسالة الإسلام، الذي جعل من جبر الخواطر عبادة خفية، قد تفوق في أجرها كثيرًا من النوافل؛ فالقرآن الكريم يحث على اللين والرحمة، كما في قوله تعالى: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا"، ونبينا ﷺ يقول: "الكلمة الطيبة صدقة"، وهو الذي كان مثالًا حيًا في جبر خواطر أصحابه.
ولا يفوتنا ذلك القول المأثور الذي يحض على هذه الفضيلة: "من سار بين الناس جابرًا للخواطر أدركته عناية الله وهو في جوف المخاطر".
إن جبر الخواطر في جوهره ليس فعلاً يخص الآخرين فقط، بل هو استثمار في صحتنا وسعادتنا جميعًا. وكلما تقدم بنا العمر، أدركنا أن الكلمة الطيبة قد تكون أثمن من دواء، وأن الحنان في التعامل قد يسبق الطب في شفاء القلوب.
فلنجعل من جبر الخواطر عادة يومية، وليتذكر كل منا أن ما تمنحه من دفء للآخرين يعود إليك أضعافًا مضاعفة، من الصحة والراحة والرضا، وأنك حين تجبر بخاطر أحدهم، فإنك في الحقيقة تجبر بخاطر نفسك قبل كل شيء.