هل يمثل اتفاق غزة الحالي نقطة تحول إستراتيجية نحو تحقيق مكاسب عربية، أم أنه فخٌ ناعم صُمِّم لإلهاء العرب عن مسار الكيان المحتل؟ يمثل هذا الاتفاق أكثر من مجرد هدنة؛ إنه مرتكز أساسي سيعيد تشكيل مستقبل العلاقات العربية ليس فقط مع الكيان، بل ومع القوى العالمية الكبرى. إن التداعيات المتوقعة خطيرة ومحورية، وتستدعي منا كأمة عربية توحيد الصف وتفعيل موقف إستراتيجي موحد لمواجهة كافة الاحتمالات. يجب أن يتحول الإجماع العربي الذي كاد أن يتحقق حول "اتفاق غزة" إلى يقظة حقيقية، لتحديد ما إذا كان هذا المسار هو مسار تحوّل أم مجرد فخ.
فبرغم التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني الأبي، شعب البطولة والصمود، فإن حرب غزة بحد ذاتها تشكل انتصارًا إستراتيجيًا يعزز الموقف العربي ككل؛ وهنا، يجب أن يتجاوز تحليلنا الخلافات العقائدية والسياسية مع حركة حماس؛ فالمحور الذي يجمعنا جميعًا كعرب هو العدو المشترك والتحدي الوجودي.
بالنظر إلى الحقائق الإستراتيجية، نجد أن الوضع قبل اندلاع الحرب مباشرة كان يشهد جهودًا حثيثة لترسيخ ممر اقتصادي يمتد من الخليج العربي إلى الهند عبر غزة، في محاولة لخلق بديل لقناة السويس. كانت خطط الكيان المحتل للتطبيع تهدف إلى تأمين هذا المشروع الحيوي، الذي كان سيتطلب بالضرورة احتلالًا لقطاع غزة لضمان سلامة الممر؛ ولقد جاءت الحرب لتوقف هذا المخطط الاستعماري الاقتصادي، ولقد تأكد أن مقاومة غزة كانت خط دفاع عن الممرات الاقتصادية العربية أيضًا. لأن أهداف الكيان المحتل ليست خافية، فهي واضحة كالشمس: من النيل إلى الفرات.
رئيس وزراء العدو صرّح بوضوح أنه مبعوث العناية الإلهية لتحقيق "إسرائيل الكبرى"، وأمامه سبع دول عربية. بناءً عليه، فإن احتلال غزة كان هو المرحلة القادمة الحتمية، سواء بدأت حماس الهجوم أم لا؛ وهذا يؤكد أن غزة ليست مجرد قضية فلسطينية؛ بل هي خط الدفاع الأول عن أمن مصر والسعودية والوطن العربي بأكمله.
في سياق آخر، كانت قضية فلسطين تتجه نحو التلاشي التدريجي من الأجندة الدولية. لكن حرب غزة عملت كصدمة إيجابية، حيث أعادت القضية إلى صدارة المشهد العالمي. والأهم من ذلك، أحدثت تحولًا جذريًا في الرأي العام، خاصة في الولايات المتحدة والغرب، نحو التعاطف والتأييد الصريح للقضية الفلسطينية، حتى داخل الجامعات والمحافل الأمريكية. هذه النتائج الإيجابية والمُبهرة تبشّر بتغيرات كبيرة ومستقبلية لصالح الحق العربي، وعلى المدى المتوسط، فاقت خسائر العدو في الجانب العسكري، وأبرز هذه الخسائر هو توقف هجرة اليهود تمامًا، بل وتصاعد الهجرة العكسية، وهو ما يمثل تآكلًا بنيويًا في فكرة الدولة التي فشلت في توفير الأمن، يضاف إلى ذلك العزوف عن الخدمة العسكرية، وتوقف السياحة، والخسائر البشرية الفادحة، وتراجع التأييد العالمي؛ كل ذلك يشير إلى أن الكيان يواجه تحديات وجودية غير مسبوقة.
إن التاريخ يؤكد أن وعود الكيان المحتل تفتقر إلى الأمان والعهد، ومن المتوقع بل من المؤكد أن يكون الإخلال بالاتفاقيات والعودة للعدوان هو الخيار القادم؛ ولذا، يجب علينا كعرب الاستعداد الكامل لهذا الاحتمال، والعمل فورًا على إعداد أوراق ضغط فاعلة على صُنَّاع القرار في أمريكا والغرب. كما يجب استثمار التغير الإيجابي في موقف الشعوب لإجبار حلفاء الكيان على وقف المساعدات، وإجباره على الالتزام بالاتفاقية.
وفي الختام، بينما يُنظر إلى قرار حماس بقبول الاتفاق على أنه خطوة إستراتيجية حكيمة لاستثمار مكاسب القتال سياسيًا، فإن العرب مطالبون بأقصى درجات اليقظة. يجب أن ندرك أن احتمال كونه فخًا قائم بقوة، فالمرحلة القادمة تتطلب حنكة سياسية وتوحيدًا للرؤى، مع الاستعداد الدائم لنقض العهد من قبل الكيان، فإن المصير واحد والتحدي مشترك، ولا مجال للغفلة.