تبدو تساؤلات الهوية اليوم كأنها جروح مفتوحة في جسد الأمم، تعود للظهور كلما ضاق الحاضر وغمض المستقبل. ولعل من أكثر تلك الأسئلة إلحاحًا في الذاكرة المصرية سؤال "أصل الفراعنة"، الذي احتدم النقاش حوله منذ أكثر من قرن: هل هم أفارقة جاءوا من الجنوب؟ أم عرب من صحراء الجزيرة؟ أم ليبيون أو حتى أتراك كما ادعى بعض الرحالة والمستشرقون؟
بدا الأمر حينها وكأنه مجرد جدل تاريخي، لكنه في الحقيقة كان صراعًا على الهوية، ومحاولة لبناء سردية تمنح المصريين والعرب شعورًا بالانتماء والفخر في مواجهة الاستعمار والهيمنة الثقافية.
ومن المفارقات أن هذا السؤال لم يبهت مع مرور الزمن، بل تجدد بوجوه مختلفة، مدفوعًا بتطور العلم من جهة، وبقلق الهوية من جهة أخرى.
فكلما غاب الأفق المستقبلي، عاد الماضي ليطرح نفسه كملاذ وعزاء. لكن هل يغير شيئًا من عظمة الحضارة المصرية أن نعرف أصل صانعيها؟ أليس الأجدر أن ننشغل بما أنجزوه لا بأصولهم؟
من هنا يفتح هذا المقال أبوابه لرحلة تأملية في معنى الأصل والهوية، تقارن بين الماضي والحاضر، وتستحضر نماذج أخرى كأمريكا التي صنعت من تعدد أصولها وحدة وهوية، لتسائلنا: كيف نصنع نحن هوية تليق بتاريخنا وتواجه تحديات عصرنا؟
ذاكرة محملة بغبار التساؤلات
كنت أتصفح بعض الأوراق القديمة التي حملت رائحة الغبار وعبق الأزمنة البعيدة، فإذا بي أقع على جدل مضى عليه قرن أو يزيد؛ جدل لم يكن مجرد نقاش أكاديمي، بل صراع على الهوية: هل الفراعنة أتراك كما زعم البعض؟ أم ليبيون؟ أم أفارقة جاءوا من الجنوب؟ أم أنهم عرب أقحاح من صحراء نجد والحجاز، كما حاول أن يثبت أحمد زكي باشا والمؤرخ نقولا حداد؟
لم أتمالك ابتسامة شاحبة، يختلط فيها حنين إلى زمن كانت الأسئلة فيه عن الأصل ترفًا فكريًا ذا جذور. حنين يخالطه شجن؛ لأننا بعد كل هذا الزمن، ما زلنا أسرى لهذا السؤال، نعيد طرحه بأدوات أكثر تطورًا، لكن بالهاجس ذاته والقلق ذاته. كأن الهوية في بلادنا جرح لا يلتئم، وماضيًا لا يبارح الحاضر.
إن ما كان يبحث عنه أحمد زكي باشا ونقولا حداد لم يكن مجرد تتبع مسار هجرة بشرية قديمة أو تحديد نقطة انطلاق موجة سكنت ضفاف النيل. كان الأمر أعمق وأثقل: كان محاولة لتشييد هوية في مواجهة استعمار غربي متغطرس، وهيمنة تركية سابقة لا تزال أصداؤها تتردد.
لقد كان لا بد من رد عروبي يربط المجد القديم بالذات العربية الحديثة، محاولة لإثبات أن صانع الحضارة ليس غريبًا أو دخيلًا، بل ابن العم وابن الصحراء العربية. إنها معركة على الورق، لكنها لم تكن أقل خطرًا من المعارك على الأرض؛ إذ كان الوعي نفسه ميدانها وساحة قتالها.
سؤال الأصل حين يغيب المصير
هنا تكمن المفارقة التي لا تنفك تشغلني: أننا ننشغل بسؤال "الأصل" حين نكون غير واثقين من "المصير". حين يكون الحاضر مثقلًا بالهزائم، والمستقبل غامضًا، نلجأ إلى الماضي نبحث فيه عن عزاء، عن نسب يمنح الكبرياء، عن جذور تشعرنا أننا لم نأتِ من فراغ.
وكأن سؤال "من أين جئنا؟" لا يُطرح إلا حين نعجز عن الإجابة عن سؤال "إلى أين نذهب؟". من هنا صار النقاش حول أصول الفراعنة انعكاسًا لأزمة أعمق، أزمة هوية وحاضر مأزوم.
لكن أليس من الأجدى أن نتساءل: ماذا يغير أن يكون الفراعنة من نجد أو من إفريقيا أو من المريخ؟ الأهرامات ستظل شامخة على ضفاف النيل، والنقوش ستظل تحكي قصة الإبداع البشري، والمعابد ستظل تنطق باسم عبقرية المصري القديم.
إن عظمة الحضارة المصرية لم تأتِ من دماء نقية أو نسب محفوظ في كتب الأنساب، بل من ذلك التفاعل العجيب بين الإنسان والنيل والمناخ والبيئة. جاءت من القدرة على التنظيم، والإيمان العميق بالمعنى، والخيال الخلاق الذي استطاع أن يحول الصخر الجامد إلى معجزة تتحدى الزمن.
لقد حاول العلم الحديث أن يضع نهاية لهذا الجدل، لكنه لم يفعل سوى أن جعله أكثر تعقيدًا. فالاكتشافات الأركيولوجية والتحاليل الجينية لا تؤكد نظرية واحدة، بل تكشف أن مصر كانت دائمًا ملتقى للهجرات، وبوتقة لتمازج البشر. لا أصل واحد، بل أصول متعددة تتلاقى وتتصاهر لتصنع هذه الهوية المركبة.
وكأن مصر كُتبت منذ البدء لتكون مركز التقاء، لا نقطة انطلاق أحادية. وهذه الحقيقة، في جوهرها، أجمل بكثير من كل السرديات المريحة التي أراد البعض فرضها، لأن التعدد هو سر الإبداع، والاختلاط هو أصل الغنى.
تجربة عتيقة لها مثيل معاصر
لعل المقارنة هنا تستدعي نفسها مع التجربة الأمريكية. تلك البلاد التي اجتمع فيها المهاجرون من كل فج، من أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، من كل الأعراق واللغات والألوان. لا أحد في أمريكا يستطيع أن يدعي نقاء الأصل، ولا أحد يملك أن يحتكر الهوية. ومع ذلك، فإن ملايين البشر هناك يرفعون الرأس بفخر حين يقولون: "نحن أمريكيون". لقد استطاعت أمريكا، رغم تناقضاتها العميقة، أن تصنع من هذا التعدد هوية جامعة، وأن تجعل من رايتها رمزًا يتسع لكل المختلفين. لم يكن الأمر سهلًا، ولا كان بلا صراع أو دماء، ولكنه في النهاية أثبت أن الانتماء لا يحتاج إلى أصل بيولوجي، بل إلى عقد اجتماعي ورؤية مشتركة للمستقبل.
فأين نحن من ذلك؟ لماذا نصر على أن نربط مجدنا بما إذا كان الفراعنة عربًا أو أفارقة؟ لماذا نبحث عن عزاء في الأنساب بدل أن نصنع هوية حية تنبض بالحاضر وتستشرف المستقبل؟
نحن، في الحقيقة، لم نتعلم من الفراعنة إلا أقل القليل. لم نلتقط من تراثهم إلا الأحجار، بينما غابت عنا روحهم. المصري القديم لم يكن منشغلًا بنقاء الدم، بل بخلود الفكرة. لم يكن يفتش عن أصوله في الصحارى البعيدة، بل كان منشغلًا بكيف يصنع نظامًا اجتماعيًا متماسكًا، وكيف يشيد معبدًا يقف كرمز للأبدية، وكيف يجعل من النيل شريان حياة لا ينضب.
جدل الأمس صراع اليوم
إن أزمتنا اليوم أننا نحول الماضي إلى متحف، أو إلى ساحة للجدل العقيم. الماضي لا ينبغي أن يكون مرقدًا للنوم ولا ساحة للمعارك الوهمية، بل موردًا نستخرج منه ما يعيننا على صناعة الغد.
الحضارة المصرية ليست ملكية وراثية نتباهى بها، بل درس مستمر في كيفية تحويل الحلم إلى حجر، والفكرة إلى بناء خالد. وإذا كان الأمريكيون قد صنعوا من خليط الأصول هوية جامعة، فلماذا لا نصنع نحن من ماضينا المتعدد والمتشابك هوية حديثة تعانق المستقبل بدلاً من أن تظل أسيرة الأنساب؟
إن مصر لم تكن يومًا أحادية الأصل، فلماذا نصر على أن نجعلها كذلك؟ إن عظمتها جاءت من كونها نقطة التقاء، ووعاء استوعب الإفريقي والآسيوي والبدوي والنوبي، وصهرهم في هوية واحدة هي "المصرية". وهذا بالضبط ما يجب أن نستعيده اليوم: القدرة على أن نكون وعاءً جامعًا، أن نصنع هوية تستوعب الاختلاف وتحوله إلى قوة، لا أن نحوله إلى ساحة صراع.
وحين أعود إلى ذلك الجدل القديم، أدرك أن معركة أحمد زكي باشا ونقولا حداد كانت معركة عصرها، أما معركتنا اليوم فهي مختلفة. لسنا بحاجة إلى إثبات أن الفراعنة عرب، ولا أن نرد على مزاعم الأتراك أو الغربيين. معركتنا الحقيقية هي: كيف نصنع حضارتنا نحن؟ كيف نعيد للنيل مكانته كحبل سري يربط الحياة؟ كيف نحول الأهرامات من مجرد مزار سياحي إلى درس في الإرادة والإتقان؟ كيف نبني نظامًا اجتماعيًا حديثًا يكون في صلابته شبيهًا بالنظام الذي جعل الحضارة القديمة تدوم لآلاف السنين؟