منذ أن أعلنت لجنة نوبل هذا العام فوز العالم الفلسطيني الأمريكي عمر ياغي -إلى جانب عالمين آخرين- بجائزة الكيمياء عن اكتشافهم الهياكل المعدنية العضوية (MOFs)، والعالم يعيش حالة انبهار جديدة: كيف يمكن لمادة لا تُرى بالعين المجردة أن تُنتج الماء من الهواء الجاف؟
وقبل الخوض في أهمية الاكتشاف، من الطريف أن نلاحظ كيف سارعت كل دولة إلى نسب ياغي لنفسها: فالأردن وصفته بالعالم الأردني، والسعودية بالعالم السعودي، بينما ذكرته وكالات الأنباء العالمية بأنه العالم الأمريكي من أصل فلسطيني.
والحقيقة أنه يجمع الجنسيات الثلاث: الأردنية والسعودية والأمريكية، في انعكاس رمزي جميل لوحدة المعرفة وتجاوزها للحدود.
من إسفنجة الذرات إلى ثورة في الماء والطاقة
تقوم هذه المادة على فكرة بديعة: شبكة بلورية من المعادن والروابط العضوية تشكِّل ما يشبه إسفنجة مجهرية قادرة على احتجاز الغازات أو السوائل داخل مسامات دقيقة لا تُقاس إلا على مستوى الذرات، وفي حالة الماء، تعمل كما لو كانت مصيدة لبخار الجو؛ تمتصه ليلًا حين ترتفع الرطوبة، ثم تطلقه صباحًا مع أول ضوء للشمس.
وفي تجربة مدهشة في صحراء أريزونا، أثبت فريق ياغي أن بإمكان هذه المواد توليد لترين من الماء يوميًا من هواء جاف، دون أي مصدر كهربائي، فقط بالاعتماد على حرارة الشمس. تخيّل ما يعنيه ذلك لدولٍ تعاني ندرة المياه، بينما تفيض شمسها بالطاقة المجانية.
أمل جديد لمواجهة تغيّر المناخ
لم تتوقف الهياكل المعدنية العضوية عند حدود الماء؛ فقد أثبتت قدرتها أيضًا على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من مداخن المصانع، بل وحتى من الهواء المحيط، مما يجعلها أداة واعدة في الحد من الاحتباس الحراري.
وفي ميدان الطاقة، تُستخدم لتخزين الهيدروجين والميثان بكثافة غير مسبوقة، وهو ما قد يفتح الباب أمام وقود نظيف يحررنا من الاعتماد على النفط.
صديقة للبيئة.. قابلة للتصميم الذري
ما يميز هذه المواد حقًا هو مرونتها الفريدة؛ فالعلماء يستطيعون «تفصيلها» ذريًا بحسب الغرض المطلوب: تنقية المياه من المعادن الثقيلة، أو فصل الغازات السامة، أو امتصاص الروائح والملوثات الصناعية. إنها ببساطة مواد ذكية تعرف ما تلتقط وما تترك، وتعمل بصمت كخلايا منطقية داخل الطبيعة.
عقبات في الطريق
لكن الطريق ليس ممهدًا تمامًا. فمثل أي اكتشاف جديد، ما زال الحلم يواجه تحديات؛ إذ يتطلب إنتاج هذه المواد على نطاق واسع دقة عالية وكلفة مرتفعة، وبعض الأنواع تفقد فعاليتها عند التعرض المستمر للرطوبة أو الحرارة، ولا تزال أجهزة توليد الماء من الهواء باهظة الثمن ومخصصة للاستخدام التجريبي أو النخبوي، إذ تصل كلفة الوحدة الواحدة إلى عدة آلاف من الدولارات مقابل بضع لترات يوميًا.
المستقبل أقرب مما نتصور
رغم ذلك، الأفق مفتوح. تتسابق فرق بحثية حول العالم لتطوير MOFs من معادن رخيصة مثل الألومنيوم والمغنيسيوم، فيما تعمل شركات ناشئة في أمريكا واليابان وأستراليا على وحدات تجريبية تمزج بين الطاقة الشمسية والهياكل الذرية لإنتاج كميات أكبر من الماء بكلفة أقل. ويعتقد الخبراء أن عقدًا واحدًا فقط يفصلنا عن انتشار واسع لهذه التقنية في المنازل والمزارع والمناطق النائمة.
نهاية مفتوحة.. وعالم جديد
ربما سنرى قريبًا بيوتًا تولّد ماءها من الهواء كما تولّد طاقتها من الشمس، وتعيد تدوير مخلفاتها بذكاء. ذلك ليس حلمًا خياليًا، بل ثمرة ثورة علمية هادئة بدأت في مختبر كيميائي قبل سنوات، وتوشك أن تغيّر علاقة الإنسان بأبسط مقومات الحياة: الماء، الهواء، والطاقة.