شاب نحيف، أسمر الوجه، بشعر مجعد وعيون تشع قلقًا وأملًا، يقف أمام مدرسته الثانوية في إحدى قرى النوبة، ينتظر النتيجة وسط أصدقائه، وكلما سمع كلمة «راسب» ترتجف أحلامه الصغيرة، كان يخاف أن يُكتب له نفس المصير، فيُحرم من حلمه الأثير: أن يغادر بلدته إلى القاهرة، المدينة التى كانت بالنسبة له بوابة النور.
موضوعات مقترحة
لم يكن يدرك وقتها أن طريقه سيبدأ من الجنوب، لكنه سينتهى إلى عرش الغناء المصرى، ذلك الفتى هو محمد منير، والذي لقب بـ الكينج ويحل اليوم عيد ميلاده الـ 71، الذى لم يُغنِّ فقط، بل رسم بصوته خريطة جديدة للوطن والحب والحرية.
محمد منير
منير.. ثورة الصوت والروح
لم يكن «منير» مطربًا عابرًا في مشهد موسيقى مزدحم، بل ظاهرة أعادت تعريف الغناء ذاته، فكما أحدث عبدالحليم حافظ ثورته الأولى، جاء منير ليقود الثورة الثانية فى الأغنية المصرية، متسلحًا بجذوره النوبية وروحه المتمردة، آمن بأن مصر ليست فقط حضارة، بل مزيج من ألوان وصوت الأرض، وظل يقول بثقة: «تراثنا ملىء بكنوز.. فلماذا نبحث عن الغرب؟».
محمد منير
بليغ حمدى.. الرهان الذى كسبه الزمن
في بداياته، لم يره الكثيرون نجمًا، لم يكن وسيماً بالمعايير السائدة، ولا "جانًا" كما اعتادت عيون الجمهور، لكن الموسيقار بليغ حمدى وحده رأى فيه شيئًا مختلفًا، فآمن به كأبٍ قبل أن يدعمه كفنان.
تحمّس له في وقتٍ لم يجرؤ آخرون على المجازفة، فكان رهانه على الفتى النوبى رهانًا على الموهبة الصافية، التى كسرت لاحقًا كل القواعد الجمالية في مفهوم النجومية.
محمد منير
ألبومات شكلت وجدان جيل
منذ أن قال في أول ألبوماته عام 1977 «علّمونى عنيكى»، لم يتوقف منير عن البحث عن المعنى المختلف، ثم جاءت محطاته المتتالية: «شبابيك، بنتولد، وسط الدايرة، أنا قلبى مساكن شعبية، اتكلمى، برئ، شيكولاتة، طعم البيوت»، كل عمل منها كان مرآة لمرحلة من الوعى المصرى والعربى.
شاركته الرحلة كتيبة من الحالمين: أحمد منيب، عبدالرحيم منصور، صلاح جاهين، وجيه عزيز، يحيى خليل، وهانى شنودة، آمنوا جميعًا بأن الفن لا يعيش بالتكرار بل بالجرأة، ولهذا لم يخش منير أن يُفاجئ جمهوره بكلمات تحمل روح الحياة اليومية: «الفرصة بنت جميلة راكبة عجلة ببدّال»، «برّه الشبابيك مطر.. برّه الشبابيك غيوم»
حين يصبح الغناء وجهاً آخر للوطن
منير لم يغنِّ للحب فقط، بل للوطن بكل ملامحه بفرحه، وجراحه، وناسِه، صوته يشبه النيل؛ هادئ في ظاهره، عميق في جوهره، ومن خلال أغانيه، صارت مصر امرأةً جميلةً تتقاطع فيها الحبيبة بالأرض بالأمل، لهذا ارتبط به الناس في لحظات الفرح والانكسار على حدٍ سواء، لأنه كان دائمًا يغنّى ما يشعرون به قبل أن ينطقوه.
محمد منير
البصمة التى لا تُقلَّد
فى عالمٍ يميل إلى التقليد، اختار منير أن يكون أصيلًا، لم يشبه أحدًا، ولم يسمح لأحد أن يشبهه، وحين يغنّى أغنية لغيره، يلوّنها بطريقته حتى تصبح كأنها وُلدت بصوته:
«أنا بعشق البحر، الدنيا ريشة في هوا، يا مسا الجمال والدلال»، لهذا يصعب على الجمهور أن يتخيل صوتًا آخر يغنى مكانه لأن الصدق لا يُستعار.
محمد منير