لماذا أحب السادات؟!

9-10-2025 | 15:30

في المخيلة الشعبية، يرتبط اسم الرئيس الراحل محمد أنور السادات بانتصار أكتوبر المجيد على العدو الصهيوني، وبالعبور على أقوى مانع مائي، وبتحقيق النصر بعد هزيمة 67، أو ما يُسمى في الأدبيات المختلفة بأنه محا عار الهزيمة.

بعد حرب أكتوبر، اعتبره المصريون -والعرب- "قائد الانتصار العظيم"، وهي حقيقة لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد أو صاحب هوى. والانتصار العظيم على من؟ على عدو تُفكّر ألف مرة في الوقوف أمامه، ليس بطريقة حرب الشوارع، أو إطلاق عدة صواريخ وكفى، أو بخطف عدة جنود ومواطنين، لا بالطبع، ولكن بحرب نظامية تقليدية انتصرنا فيها عبر مجموعة من العوامل خاضها بذكاء شديد ودهاء أشد.

أحببت هذا الرجل عبر قراءات كثيرة، ومتابعات أكثر لمواقف كان ينتصر فيها بالذكاء على العاطفة (كان عقلانيًا)، وبالسياسة على الشعارات (منطق الأمور)، وبالتخطيط على الفهلوة، وبالإيمان على التشدد. 

وأكتب بعض ملحوظات أثرت فيّ، عن طريقة تفكير الرجل وكيف واجه الحياة والموت والخيانة.

لنبدأ من الفخر الأبدي للمصريين -والعرب إن أرادوا- بقرار حرب أكتوبر، الذي كتبه كاملاً بخط يده. 

في مساء 5 أكتوبر 1973، جلس في مكتبه وكتب قرار الحرب ثم وقّعه وحيدًا، والمعنى أنه يقول للقادة: "أنا المسئول الأول إن فشلنا، لكن الجميع منتصر إن انتصرنا". 

كانت تلك لحظة نادرة في التاريخ، رجل يوقّع على قدره وهو يعلم أن كل التبعات فوق كتفيه. القادة العاديون يوقعون فقط على قرار الحرب، ومنهم من يُلقي التهمة على القادة العسكريين في حالة الهزيمة، أما لأنه أنور السادات فهو يكتب خطاب الحرب كاملاً بخط يده ويتحمل تبعاته. وهو كما قال: "لو تمت هزيمتنا لن يخرج الشعب يطالب برجوعي، بل سيطالب بمحاكمتي". إنه قرار صعب جدًا، بل كما نرى من الأحداث المتلاحقة من حولنا "قرار شبه مستحيل".

ولم يكن قائدًا سياسيًا فقط، بل عقلاً عسكريًا نادرًا. وضع بنفسه خطة الخداع الإستراتيجي في حرب أكتوبر 73، وأشرف على تفاصيلها: مناورات شكلية، شائعات عن "مرضه" وتردده في الحرب، وتحركات ظاهرها سلام وباطنها نيران. قال في اجتماع سري: "الحرب لا تُكسب بالبندقية وحدها، بل بالعقل الذي يمسك بها". المواقف كثيرة (ولا أستطيع جمعها في مقال واحد) وتدعو للمحبة والفخر، ومع كل موقف يُكشف تنبهر بعبقرية وذكاء وحنكة الرجل الذي لم يكن سياسيًا عاديًا بل كان عبقريًا كبيرًا.

وما زلنا في حرب أكتوبر، وتقبّله للنكات السياسية. فلم يعرف وطننا العربي إلا زعماء جادون حريصون على صورتهم في أعين شعوبهم يضيقون بالسخرية أو بالنكات الساخرة منهم، لكن الرجل كان يستمع إلى كل ما يُقال عليه ويتقبله، ويعرف أن هذه طبيعة الأمور في السياسة، والمعنى أنه لا ينكرها. وهذه إحدى سمات الذكاء والعبقرية: ألا تنكر طبيعة الأشياء، فلا حاكم عليه إجماع بنسبة مائة في المئة، ولا يمكن أن يُرضي الحاكم كل فئات الشعب. 

وجاء السادات بعد زمن كان الخوف من الحاكم أكبر من الخوف من الموت، والناس يدخلون السجن بسبب مقولة أو وشاية أو نكتة عابرة. ثم سمح السادات بأن تُقال النكات عنه، وقال مرة: "دعوا الناس يضحكون عليّ، فحين يضحكون لا يكرهون". كان يعرف أن الضحك يُطفئ الغضب، وأن السخرية هي درب من دروب الحرية.

ومن ضمن الحرية، سمح بالمظاهرات الطلابية داخل الجامعات، وهو ما لم يكن مسموحًا في عهود سابقة، ولا في ظل الأسرة العلوية. قال يومها: "الطلاب أولادي، ودولة لا تسمع أبناءها دولة لا تعيش". فتح الأبواب للنقاش، لأن الوطن لا يُبنى بالصمت. حتى أن طالبًا اشتهر في الآفاق لمجرد أنه وقف يناقش السادات يومًا ما وأغضبه ولم يُسجن حينها.

ذكاؤه في مواجهة خصومه في عام 1971، حين واجه "مراكز القوى" بقيادة علي صبري وشعراوي جمعة، لم يصرخ ولم يلوّح بالسلطة. اكتفى بابتسامة وقرار. وقبل استقالاتهم في هدوء، وقال جملته التي بقيت واشتهرت: "هؤلاء يستحقون المحاكمة بتهمة الغباء السياسي". وقال أيضًا: "لقد انتهى عصر الوصاية".

أما بالنسبة للقراءة والكتابة، فإن السادات كان قارئًا نهمًا يعشق القراءة، ثم كان كاتبًا يؤلف الكتب، وتولى الإشراف العام وإدارة التحرير لجريدة الجمهورية عند تأسيسها عام 1953. فلم يكن سياسيًا فقط، بل أديبًا في روحه. كان يكتب ليفهم لا ليبرّر. في مذكراته (البحث عن الذات) كتب: "الكتابة هي تأمل في صمتٍ لا يسمح به الحكم". كان يقرأ قبل نومه، ويؤمن أن القائد الذي لا يقرأ يعيش أعمى وسط الضوء.

وهناك نوع آخر من الذكاء كان يصاحبه هو الذكاء الاجتماعي والشعبي، فقد ظلّ السادات يلبس الجلباب البلدي بعد الرئاسة، كرمز لانتمائه وجذوره وليس لتجميل صورته. وكان دومًا يقول: "أنا فلاح من ميت أبوالكوم، ولن أخلع جلدي". وكان يجتمع ببعض قادة العالم في استراحته في قرية ميت أبوالكوم. ورغم تمسكه بالجلباب البلدي، إلا أن الصحافة العالمية كانت تعتبره واحدًا من "أشيك" القادة في العالم.

وأحب أن أنتهي بواقعة تكشف ذكاءً حادًا من السادات أو ذكاءً نادرًا، وهي قصة جمعه الموسيقار بليغ حمدي والشيخ سيد النقشبندي وقال لهما: "أنتم الاثنان يجب أن تلتقيا". فظهرت أنشودة "مولاي إني ببابك". والواقعة تكشف أمرًا غريبًا أن يكون الحاكم فاهمًا لعبقرية كليهما وسط كل مشاغل الحكم ودهاليز السياسة وأفخاخها.

هذا بالتأكيد بعض من كثير عنه، ولكن يبقى السادات رجلاً يخطئ ويصيب، لكنه دائمًا يفعل ما يراه حقًا. أحب بلده بعقل سياسي وروح شاعر. عاش بسيطًا، ورحل واقفًا كالجبل الأشم.

هكذا يظل في الذاكرة: رجلاً كتب قراره بالحرب بيده، وهدم سجنه بيده، وصنع مجده بعقله. زعيمًا فهم أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن القدر لا يُملى، بل يُكتب.

لم يكن رئيسًا من ورق، أو صوت أجوف؛ بل من لحمٍ ودمٍ وحلم وذكاء ودهاء وقوة في الحق، كان يعرف أن الكرامة لا تُستعار، وأن الزعيم الحقيقي هو من يهدي الناس النصر لا الهزيمة.

إكس: @ahmedtantawi

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة