منذ بدايات الوعي، كان اسم مصر يطلّ علينا كضوءٍ دافئ، يدخل بيوتنا الفلسطينية كما يدخل النسيم من نافذةٍ مفتوحة على البحر. لم تكن مجرد جارٍ كبير، بل كانت فضاءً ثقافياً واسعاً نلجأ إليه كلما دعتنا الحاجة، وملاذاً يحفظ صوتنا من أن يضيع في ضجيج العالم.
موضوعات مقترحة
لم تكن مصر بالنسبة للفلسطيني مجرد بلد شقيق، بل القصيدة التي تردّد صداها في حناجرنا، والمسرح الذي صعدنا إليه لنسترد حضورنا، والكتاب الذي فتح صفحاته لئلا تُطوى روايتنا. هي النافذة المشرعة على الوعي، التي منحتنا مكاناً في قلبها الواسع، كما يمنح النيل ماءه للأرض العطشى.
لقد أدركنا باكراً أن المثقف هو جسر الشعوب إلى وعيها، وأن الكلمة قد تكون أمضى من السيف. والمثقف المصري جسّد هذا الدور ببهاء نادر؛ لم يقف متفرّجاً على مأساتنا، بل شاركنا تسجيلها شعراً وسرداً وغناءً، فبقيت فلسطين جزءاً من ضمير مصر، كما تبقى مصر جزءاً من وجداننا.
منابر مصر لم تكن لنا مجرد فضاءات للعرض، بل بيوتاً حقيقية لأحلامنا ووجعنا. من مقاهي القاهرة وقاعاتها ونقاباتها، إلى صحفها وباقي وسائل إعلامها، احتضنت أصواتنا، فانتشرت نصوصنا بين النيل والأهرام، وصارت أمسياتنا هناك مواعيد للحياة لا مجرد فعاليات عابرة. وبين الجماهير المصرية التي تستمع إلينا بقلوبها، يتأصل أكثر شعورنا أن فلسطين ليست وحيدة في ليلها الطويل، بل هي قصيدة جماعية يكتبها الجميع بمداد واحد.
وما قدّمه المثقف المصري بشكل خاص لم يكن تعاطفاً عابراً، بل يقيناً بأن الرواية الفلسطينية ليست شأناً محلياً، بل قضية أمة. بالكلمة الشجاعة، وبالفن الذي لا يشيخ، ساهم في تشكيل وعي أجيالٍ كاملة، وحصّن ذاكرتها ضد أي تزييف، ويبقيها في القلب دون أدنى تهميش.
إنني أكتب هذه الشهادة وأستعيد ذلك العناق الطويل بين مصر وفلسطين، لا كحدث عابر، بل كمعجزة متجددة تعلّمنا أن الثقافة تهزم العزلة، وأن القصيدة يمكن أن تكون خندقاً، وأن الأغنية تتحوّل إلى علمٍ يرفرف؛ يبعث الأمل ويشد من الأزر.
واليوم، في زمن يتكالب فيه الليل، يبقى المثقف المصري واقفاً إلى جوارنا، ممسكاً بيدنا، رافعاً صوتنا ليبقى عالياً، مذكّراً العالم أن فلسطين ما زالت هنا، حيّة في الوجدان، عصيّة على المحو والنسيان.
لهذا، تبقى مصر بالنسبة لي ليست فقط الشقيقة الكبرى، بل الرفيقة التي منحتنا قوتها لنزداد حضوراً، وذاكرتها لنزداد ثباتاً، وصوتها لنظلّ قادرين على الغناء حتى في أقسى لحظات الفقد.
ماهر المقوسي، شاعر وكاتب فلسطيني