تُعد اللغة العمود الفقري لأي مجتمع، فهي ليست مجرد مجموعة من الأصوات والرموز، بل هي الوعاء الذي يحمل الثقافة، والهوية، والذاكرة الجمعية لأمة بأكملها. وفي جوهرها، تكمن أهمية اللغة في كونها الوسيلة الأسمى للتواصل التي تسمح بتبادل الأفكار، ونقل المعارف، وبناء جسور التفاهم بين الأفراد والأجيال؛ لأن اللغة هي الأداة الحية التي تُشكّل وعينا وتُحدّد مسارات تفكيرنا. ومع التسارع الهائل الذي يشهده العالم، وظهور الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، بدأنا نلاحظ ظاهرة مثيرة للقلق وهي اختلاف لغة الحوار بين الأجيال، وتحديدًا بين الجيل القديم والجيل الجديد. هذا الاختلاف تجاوز مجرد التباين في المصطلحات ليصبح فجوة تواصل حقيقية.
حيث يتميز الجيل الجديد بتبني مفردات لغوية غريبة ودخيلة، مزيج من العامية المفرطة، والمصطلحات الإنجليزية المعربة، والمختصرات الرقمية السريعة التي تتجاهل القواعد النحوية والصرفية للغة العربية الفصحى. هذه المفردات، التي تُعرف أحيانًا بـ "لغة السوشيال ميديا"، تهدف إلى السرعة والاختصار والتعبير عن الانفعالات اللحظية، وغالبًا ما تولد في بيئة افتراضية ثم تنتقل إلى الواقع. على سبيل المثال، نجد مصطلحات تُستخدم بشكل واسع مثل كلمة فيبز (Vibes) وهي كلمة إنجليزية دخيلة تُستخدم لوصف المشاعر أو الأجواء العامة، وكلمة ترند (Trend) لوصف كل ما هو شائع أو رائج حاليًا، وكلمة كول (Cool) للتعبير عن الهدوء أو الإعجاب بالشيء. وكذلك استخدام الرموز التعبيرية (الإيموجي) كبديل للجمل التامة، مما يُفرغ التواصل من عمقه اللغوي. في حين يرى الشباب أن هذه المصطلحات تعكس انتمائهم إلى عالمهم الخاص وتمنحهم هوية مميزة، يراها الجيل الأقدم إضعافًا للغة، وابتعادًا عن هويتها الأصيلة. هذا التباين في فهم قيمة المفردات يؤدي بشكل مباشر إلى فجوة في التفاهم ولغة الحوار الصحيحة.
إن استخدام أساليب وتراكيب لغوية غير مفهومة أو غير معلومة للطرف الآخر له جوانب سلبية وخيمة على التواصل بين الأجيال منها: عزل الأجيال؛ حيث يؤدي عدم القدرة على فهم مفردات الآخر إلى شعور الجيل الأقدم بالاغتراب وعدم القدرة على مواكبة أبنائهم، ويشعر الجيل الأصغر بعدم فهم أو تقدير من آبائهم. وأيضًا سوء الفهم والتفسير؛ وهو غالبًا ما تحمل المصطلحات الدخيلة معاني مبهمة أو متغيرة، مما يزيد من احتمالية سوء التفسير والوقوع في الخلافات نتيجة عدم وضوح الرسالة. كذلك تسطيح الحوار؛ لأنه عندما تسيطر لغة الاختصار والتعابير العابرة، يفتقر الحوار إلى العمق الفكري والمضمون الهادف، ويتحول إلى تبادل سريع للسطحيات بدلًا من مناقشة القضايا الجوهرية.
وأخيرًا تآكل الهوية؛ لأن الانفصال اللغوي عن الأصول يهدد تماسك الهوية الثقافية في المجتمعات، ويجعل الأجيال الجديدة أكثر هشاشة وتأثرًا بالثقافات الغربية دون نقد أو تحليل.
لذلك نصل إلى حقيقة واقعية لا يمكن إغفالها أو تركها جانبًا، وهي: إذا كانت اللغة هي الهوية، فإن اللغة العربية الفصحى هي جوهر هذه الهوية وذاكرتها الممتدة لقرون. حيث إن العودة إلى قواعد اللغة العربية وإعادة استخدامها بشكلها الصحيح ليست مجرد دعوة للحفاظ على الإرث، بل هي خطوة استراتيجية لتعميق فكرة الهوية واستمرارية اللغة.
فاللغة العربية بقواعدها الثابتة وتراكيبها الغنية هي القاسم المشترك الذي يربط بين الأجيال ويضمن نقل المعرفة دون تشويه. وعندما تُفقد القدرة على التعبير بجمل صحيحة وواضحة، تُفقد معها القدرة على التفكير النقدي المنظم والتحليل العميق؛ لأن اللغة هي أداة التفكير. لذلك، فإن ترسيخ اللغة السليمة هو استثمار في الوعي الجمعي والثقافي للمجتمع.
ختامًا، إن اللغة الحية هي اللغة القادرة على التطور والتكيف، ولكن دون الانحراف عن أصولها. إننا بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى بناء لغة حوار مشتركة بين الأجيال. هذه اللغة المشتركة ليست دعوة لتجميد اللغة، بل دعوة للحفاظ على قواعدها الأساسية واللغوية، مع المرونة في استيعاب التعبيرات الجديدة التي تخدم المعنى. كما يجب أن نُدرك أن اللغة هي وسيلة وليست غاية، وغايتها هي التواصل الإيجابي البنّاء.
يجب ألا تتحول مفرداتنا إلى كلمات مستهلكة لا تحمل معاني أو مضامين هادفة، بل يجب أن تكون كل كلمة نستخدمها إضافة معرفية وعاطفية للحوار. ولتأكيد التواصل الفعال، يجب على الجيل الأقدم أن يسعى لفهم وشرح سبب أهمية اللغة السليمة، وعلى الجيل الأصغر أن يُدرك أن إثراء لغته الأم هو إثراء لعقله وهويته.
فلتكن لغتنا جسرًا يربطنا بحكمة الماضي وقوة المستقبل. فاللغة التي نُهملها اليوم، هي الهوية التي سنفقدها غدًا.