في مشهدٍ يعكس عمق الانقسام السياسي في الولايات المتحدة، فُتح فصل جديد من فصول الشلل الحكومي في واشنطن، بعد أن فشل الكونجرس في تمرير مشروع قانون التمويل الفيدرالي قبل الموعد النهائي، لتتوقف عجلة الدولة عن الدوران، ويجد مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين أنفسهم فجأة خارج مكاتبهم، في انتظار اتفاقٍ لم يولد بعد.
إنها لحظةٌ تتكرر في التاريخ الأمريكي، لكنها هذه المرة تأتي في زمنٍ تتقاطع فيه الاضطرابات الاقتصادية مع التجاذبات السياسية الحادة، لتكشف عن هشاشة التوازن بين سلطة الدولة وصراعات الحزبين الكبيرين.
في عمق الأزمة، يتجلّى الصراع التقليدي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لكنه هذه المرة أكثر حدّةً وتصلبًا.
فالجمهوريون يتمسكون بتمديدٍ قصير الأجل للتمويل عند مستوياته الحالية، مفضلين تأجيل القرارات الكبرى للحفاظ على سياسة التقشف التي تبنّتها إدارة ترامب. أما الديمقراطيون، فيرون في ذلك التفافًا على الدور التشريعي للكونجرس وتجاهلاً لمطالب العدالة الاجتماعية، إذ يطالبون بزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم، ووقف تخفيضات برامج الدعم للفئات محدودة الدخل.
وهكذا تحوّل الجدل حول الأرقام إلى معركةٍ حول القيم والرؤى: بين من يريد دولةً أكبر بإنفاقٍ أقل، ومن يسعى إلى اقتصادٍ أكثر عدالة وتوزيعًا للفرص.
تداعيات اقتصادية ثقيلة
كل يوم يمرّ على الإغلاق الحكومي يترك بصمته الثقيلة على الاقتصاد الأمريكي، فأكثر من 750 ألف موظف فيدرالي أُجبروا على الإجازة دون أجر، فيما تُقدَّر الخسائر اليومية بنحو 400 مليون دولار، إلى جانب تعطّل خدماتٍ تمسّ حياة المواطن مباشرةً، من مراقبة الأغذية إلى إصدار القروض الطلابية، ومن أنشطة المتنزهات الوطنية إلى برامج المساعدات الغذائية.
ورغم أن بعض القطاعات الحيوية، كالأمن والدفاع والرقابة الجوية، تواصل العمل، إلا أن ذلك يجري بثمنٍ إنساني واقتصادي باهظ، حيث يعمل الموظفون دون أجرٍ مؤقتًا، في انتظار نهايةٍ لم تتضح ملامحها بعد، لكن الأثر الأعمق لا يُقاس بالأرقام وحدها، بل بانعكاساته على ثقة المستثمرين واستقرار الأسواق.
فالإغلاق يضيف طبقة جديدة من الغموض إلى مشهد اقتصادي يعاني أصلًا من تباطؤٍ في النمو وقلقٍ من تداعيات الرسوم الجمركية العقابية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واضطراب سلاسل التوريد.
ومع غياب التقارير الاقتصادية الدورية التي يعتمد عليها صناع القرار، يجد المستثمرون أنفسهم، كما وصف أحد المحللين، يسيرون دون بوصلة في بحرٍ مضطرب.
إغلاق مختلف في عهد جديد
ما يميز هذا الإغلاق عن الإغلاقات السابقة هو الرضا الضمني داخل البيت الأبيض عن استمرار الأزمة، إذ يرى بعض المقربين من إدارة ترامب أن الأزمة تمثل فرصة لإعادة هيكلة الجهاز الحكومي وتقليص حجمه، عبر تحديد "العمال غير الأساسيين" تمهيدًا لتسريحهم لاحقًا.
لكن هذا النهج يحمل مخاطر جسيمة، فهو لا يهدد فقط بتقليص دور الدولة في الاقتصاد، بل يُضعف قدرتها على الاستجابة للأزمات الطارئة، سواء كانت صحية أو مالية أو بيئية.
إنها مقامرة سياسية واقتصادية في آنٍ واحد، يختبر بها البيت الأبيض حدود قدرته على إعادة رسم ملامح الدولة الأمريكية الحديثة.
انعكاسات تتجاوز واشنطن
لا يقتصر تأثير الإغلاق على الداخل الأمريكي فحسب، بل تمتد آثاره إلى الاقتصاد العالمي؛ فالولايات المتحدة لا تزال المركز المالي العالمي الأكبر، وأي اهتزاز في إيقاعها المالي والسياسي ينعكس فورًا على الأسواق الدولية، من أسعار النفط والعملات إلى حركة رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية.
وبينما يترقب العالم ما ستسفر عنه مفاوضات واشنطن، تتزايد المخاوف من أن يدفع استمرار الإغلاق إلى خفض التصنيف الائتماني الأمريكي، ما قد يرفع تكلفة الاقتراض ويقوّض ثقة المستثمرين في السندات الأمريكية التي طالما عُدت الملاذ الآمن في أوقات الاضطراب.
فصلٌ جديد في روايةٍ لا تنتهي
الإغلاق الحكومي الأمريكي ليس مجرد أزمة مالية عابرة، بل مرآة تعكس أزمة أعمق في الحوكمة والقيادة والرؤية المستقبلية، وهو ليس مجرد حدث سياسي داخلي، بل رسالة إلى العالم مفادها أن الاقتصاد، مهما بلغ من قوة، يظل هشًا أمام خلافات السياسة.
وفي عالم مترابط، فقد تتجاوز ارتدادات هذا الإغلاق حدود واشنطن، لتطال أسواق المال العالمية، وتغذي حالة عدم اليقين التي تخشى منها الاقتصادات الناشئة والمتقدمة على السواء.
وبين جدران الكونجرس المغلقة ومكاتب الحكومة الصامتة، تكتب واشنطن، بحبرٍ من الشلل السياسي، فصلاً جديدًا في روايةٍ لا تنتهي عن الديمقراطية حين تتعثر أمام المصالح.