في مقدمة ابن خلدون ومن خلال عرضه، نستطيع أن نتحقق من وجود هذه الشروط التي تجعله بالقياس الموضوعي البحت مفسرًا رائدًا للتاريخ، وهي الشروط التي انتهى إليها البحث الفلسفي الحديث في التاريخ .
النظرية الخلدونية وحركة الحضارة:
في تفسيره للتاريخ يرى ابن خلدون أن التطور سنة من سنن الله في الحياة الاجتماعية، ويقول: "إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم علي وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف علي الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلي حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول".
وأهم ما يوجه التطور الاجتماعي والعمراني عند ابن خلون، هو نظريته في العصبية، فهي بمثابة المحور الذي تدور حوله معظم المباحث الاجتماعية والتاريخية عنده، وهو يتخذ من هذه الأربطة موضوعاً لدراسة شاملة وعميقة، فيتكلم عن مصدر العصبية، ويردها إلي الطبيعة البشرية؛ لأن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل، ومن صفتها النعرة علي ذوى القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة.
ويدخل في هذه العصبية عنده عصبة الولاء، والعصبية عنده من خصائص البادية، وهي مما يُفسد بحياة الحضر، ولها أثر الهام في الحياة الاجتماعية؛ لأن بها يتم التغلب، وبالتغلب يحصل الملك، وهكذا تلعب العصبية دوراً هاماً في تأسيس الملك وتكوين الدولة ، فاتساع الدولة يكون متناسباً مع قوة تلك العصبية.
ويلاحظ ابن خلدون نوعاً من العلاقة بين العصبية وبين أمور الديانة والدعوة الدينية أيضاً، ففي رأيه أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، كما يلاحظ نوعاً من المشابهة بين تأثير الدين وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية، وهي نظرية موفقة إلي حد كبير في إظهار أوثق أنواع الروابط الاجتماعية، وتعيين أهم أشكال التكاتف الاجتماعي في مثل تلك البيئات الجغرافية وتلك العهود التاريخية ، وهي تدل علي تفكير فاحص ونافذ ومحيط ومتعمق في درس الحوادث الاجتماعية وتعليل الوقائع التاريخية ، كذلك تكشف نظرية ابن خلدون في الدول وأعمارها عن نظرية في التطور الاجتماعي ، ذات أبعاد بيولوجية ، فالدولة عنده كائن حي يتطور علي الدوام وفق نظام ثابت ، كما تتطور جميع الكائنات الحية .
فالحضارة عند ابن خلدون تتعاقب ، علي الأمم في ثلاثة أطوار : هي طور البداوة ، ثم طور التحضر ، ثم طور التدهور الذي يؤدي إلي السقوط .
فأما تطور البداوة فيمثل له ابن خلدون بمعيشة البدو في الصحاري ، والبربر في الجبال ، والتتار في السهول ، وهؤلاء عند ابن خلدون لا يخضعون لقوانين مدنية ولا تحكمهم سوى حاجاتهم وعاداتهم .
وأما طور التحضر ، فهو طور تأسيس الدولة عقب الغزو والفتح ، ثم الاستقرار في المدن ، والتمكن من العلوم والصناعات ، وهذا الطور يقوم علي الدين والعصبية ، وقد عقد ابن خلدون لطور التحضر فصلاً بعنوان " فصل في أن الدول العامة الاستيلاء ، العظيمة الملك ، أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق".
وأما طور التدهور ، فيأتي في نهاية التحضر ، بعد مرحلة الازدهار ، ووصول الناس إلي مرحلة الانغماس في الترف ، والتحلل في الأخلاق ، وتغير العادات إلي المناكر ، والتواضع عليها ، ويرى ابن خلدون أن مراحل تحضر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها ، ذلك أن الحضارة وإن كانت غاية العمران ، فهي في الوقت نفسه مؤذنة بنهاية عمره ، وأول هذه العوامل هو العصبية التي تتسم بها الرياسة والملك ، ولكن صاحب الرياسة يطلب الانفراد بالملك والمجد ، والطبيعة الحيوانية تدفعه إلي الكبر والأنفة ، فيأنف من أن يشاركه أهل عصبيته فيدفعهم عن ملكه ، ويأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة حتى يصبحوا بعض أعدائه ، وطبيعة التألة في الملوك تدفعه إلي الاستئثار ، إذ لا تكون الرياسة إلا بالانفراد فيجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه لينفرد بالملك والمجد ما استطاع ، ويعاني الملك في ذلك بأشد مما عانى في إقامة الملك ، لأنه كان يدافع الأجانب وكان ظهراؤه علي ذلك أهل العصبية جميعهم ، أما حين الانفراد بالملك فهو يدافع الأقارب مستعيناً بالأباعد فيركب صعباً من الأمر ، إنه أمر في طبائع البشر فهو يدافع في كل الملوك ، علي أن العامل الحاسم في ضعف الدولة هو الترف ، إنه إذا كان قد زاد من قوة الدولة في أولها ، فإنه أشد العوامل أثراً في ضعفها وانهيارها ، ويفسر ابن خلدون ذلك بأسباب اقتصادية وأخلاقية ونفسية .
أما السبب الاقتصادي فإن طبيعة الملك تقتضى الترف حيث النزوع إلي ورقة الأحوال في المطعم والملبس والفرش والآنية ، وحيث إجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القابئل مع التوسعة في الأعطيات علي الصنائع والموالي ، وإدرار الأرزاق علي اجند ، ويزيد الانغماس في الترف والنعيم لا من جانب السلطان وبطانته فحسب ، بل من جانب الرعية أيضا ً ، إذ الناس علي دين ملوكهم .
أما السبب الأخلاقي النفسي الذي يجعل الترف معول هدم يؤدي إلي انهيار الدولة ، فمبعثه في رأي ابن خلدون ما يلزم عن الترف من فساد الخلق ، فإن عوائد الترف تؤدي إلي العكوف علي الشهوات وكثير من مذمومات الخلق ، فتذهب عن أهل الحضر طباع الحشمة ، ويقذعون في أقوال الفحشاء ، فضلاً عن أن الترف يُذهب خشونة البداوة ويضعف العصبية والبسالة حتى إذا انغمسوا في النعيم أصبحوا عيالاً علي الدولة كأنهم من جملىة النسوان والولدان المحتاجين إلي المدافعة عنهم ، فالترف مفسد لبأس الفرد ولشكيمة الدولة ، والترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الفساد والسفه ، والترف مظهر لحياة السكون والدعة ودليل حيل النفس إلي الدنيا والتكالب علي تحصيل متعها حتى يتفشى الخلاف والتحاسد ، ويفت ذلك في التعاضد والتعاون ، ويفضى إلي المنازعة ونهاية الدولة .
وقد انتهي ابن خلدون من خلال نظريته في تفسير التاريخ باستثناء عشرات النظرات والآراء الجزئية إلي عدد من القوانين اعتبرت جوهر نظريته الحضارية، وهي:
1- أن تطور التاريخ يخضع للتدافع والصراع والتفاعل .
2- أن العصبية الدينية والقبلية لها دور أساسي في بناء الدولة .
3- أن الحضارة كالكائن الحي في تطوره من البداوة إلي الحضارة ثم الاضمحلال .
4- أن الدول كالأفراد تخضع لدورة الحياة الفردية نفسها حتى الموت .
5- أن العوامل الجغرافية والبيئية مؤثرة في التاريخ .
6- أن للاقتصاد دوراً هاماً في العمران البشري ، وأن الاجتماع ضروري لحياة الناس " فالواحد من البشر غير مستقل بتحصيل معاشه " والعمل عنصر أساسي للثرة .
7- أن الدول تسقط بسقوط العصبية والولاء للدين .
8- أن العرب ( والإنسانية كلها ) لا تصلح بغير الدين .
إنني هنا لا أحاول القيام بعملية استقصائية للنظرية الخلدونية في تفسير التاريخ ، لكن الذي أردت الوقوف عنده هو المكانة التي تبوأتها الفكرة الخلدونية في تفسير التاريخ ، سواء في الحضارة الإسلامية أو في الفكر التاريخي الإنساني .
لقد شكلت مقدمة ابن خلدون متعرجًا حاسماً في كيفية فهم الإنسان لتاريخه وتقويمه له ، وما يرجو منه من كشف ، لا عن ماضيه فحسب ، بل خاصة عن تطور الجنس الذي ينتمي إليه ومصيره .
لقد كانت الكتابة التاريخية قبل ابن خلدون ، وعلي امتداد التاريخ كله ، باستثناء الشذرات التي ألمعنا إليها ، كتابات تنظر إلي التاريخ علي أنه مجرد رواية صادقة ، ووثيقة مؤكدة في نسبتها إلي صاحبها وعصرها وسلامة مضمونها ، ومعلومات جزئية غايتها الإلمام بحوادث الماضي والإحصاء العددي لها ... أجل ، حاول الإنسان أولاً أن يؤرخ للحوادث البارزة ، أي أن يكون لنفسه ، ولعشيرته ، ولقومه ذاكرة تحفظ المفاخر خاصة ، وتضبط أزمانها حسب السنوات ، من دون أن يحاول أن يفهم فهماً عقلياً عميقاً ضرورة بروزها في زمن وبيئة خاصة ، وسر تداخلها ، ومدى تأثيرها علي جنسه كإنسان بقطع النظر عن النظرة الجزئية المحدودة.
وعلي الرغم من الومضات الصادرة من حين إلي حين في بعض أحقاب التاريخ ، وعلي يد بعض الفذاذ الذين ألمعنا إليهم ، فإن التاريخ بقى محصوراً في دائرة الحفظ التسجيلي للوقائع ، مع توخي الصدق ، والتحري في الرواية .
ولعل مرحلة الصدق والتحري ودراسة الوثائق ، بل الاعتماد عليها ، وهي أفضل ما استطاع المنهج التاريخي أن يصل إليه قبل عصر ابن خلدون .
وما إن جاء مؤرخنا المسلم العظيم حتى بدأ التاريخ ، كما يقول (إيف لاكوست) "يكتسي صبغته العلمية:"لقد فهم ابن خلدون علاقة التفاعل المتبادلة ، التي تربط الإنسان بتاريخه ، وقد أسماها ابن خلدون (التغلبات للبشر بعضهم علي بعض) ، وقامت بعد ابن خلدون نظريات عالية الصوت ، تتحدث عن الصراع ، وعن "الديالكتيك" وعن "الجلدية المادية" والجلدية الفكرية، وكلها قد أتأت علي هذا القائد العظيم ، وانحرفت عنه يميناً أو يساراً".
إن ابن خلدون قدم المحاولة العلمية الأولى التي خصصت في تفسير التاريخ ، وهي محاولة اعتمدت علي المنج القرآني ، ولم تنفصل عنه ، لقد صور ابن خلدون حقيقة التاريخ بكل وضوح في عبارته المشهورة : "حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني ، الذي هو عمران العالم ، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات ، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم علي بعض ، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها ، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع ، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".
ويعلق أحد المؤرخين المعاصرين علي رؤية ابن خلدون للتاريخ، كما صورتها عبارته السابقة فيقول :"إن هذا التعريف للتاريخ يدهشنا ، إذ هو تعريف له كما نفهمه نحن اليوم ، بل كما يفهمه أنصار الحركة التجريدية الذين حملوا حملة شعواء في مؤتمر سنة 1950 م بباريس ، علي من بقى من المؤرخين متمسكاً بالطريقة التقليدية في رواية الحوادث واعتبار التاريخ يكفي أن يكون سجلاً لها ، فابن خلدون يريد عكس ذلك ، فهو يريد أن يجعل من التاريخ أداة كشف عن سر " الاجتماع الانساني" وعن خروج هذا الإنسان من " التوحش " إلي " التأنس " بفضل الصراع الجدلي الذي يعبد سبيله ، عبر عقبات متجددة ، نحو إنسية أكمل ، عن طرق الرقي المستمر الناشئ حتماً عما " ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال " وطبيعة الأحوال هذه التي يشير إليها ابن خلدون ، يعتبرها القانون الذي بمقتضاه يسير التطور الضروري الذي لا يعاند ، إنما هي سنة الله التي توجه شراع الخليفة ، لينة تارة ، عنيفة أخرى ، والتي أشار إليها القرآن في أكثر من آية ، وهكذا يصبح التاريخ ، استكشافاً كلياً لتطور الإنسان ، ومحاولة حل للغز وضعه اليوم في هذا الكون ، ولمصيره العاجل أو الآجل" .
ولئن كان ابن خلدون لم يطبق كثيراً من آرائه هذه الطموحة الجزئية في كتاب "العبر" ، فإن ذلك لا يسلبه فضل التعبير عنها بغاية الدقة والوضوح ، فإنه كان من المستحيل عملياً لا سيما في زمانه ، تطبيقها من طرف باحث واحد ، في موسوعة فتحت صفحاتها لتاريخ العالم الإسلامي بأكمله ، ولعل استعصاء تطبيق هذه الآراء في كتاب "العبر" هو الذي جعل ابن خلدون يضمن خلاصة أفكاره وعبره واعتباراته خاصة في "المقدمة"، وهكذا فتح أبوابها للاجتماع والاقتصاد والمؤسسات ، وضروب الثقافات والعلوم ، لأن كل ذلك إن لم يكن تاريخياً صرفاً بالمعنى الضيق فلا غنى للمؤرخ عنه ولا سبيل لفهم الإنسان بدونه.
وهكذا كان ابن خلدون عملاقاً، يقف متفرداً، كحد فاصل بين مرحلتين متميزتين في المنهج التاريخي، وقد أعطى بهذا المنهج المتفرد سبقاً للحضارة الإسلامية، التي كان لها الفضل الكبير في الانتقال بالتاريخ من مرحلة الجمع إلي مرحلة التفسير، ومن منهجية التوثيق إلي منهجية التحميص والتركيب الفلسفي الذي يمثل مرحلة جديدة في الرشد العقلي للإنسانية كلها.
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي