في الثالث من أكتوبر 2025، أحيت الصين الذكرى الـ2576 لميلاد الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، في مسقط رأسه بمدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونج. عاش كونفوشيوس في زمن مضطرب، أشبه بعالمنا اليوم: دويلات متنازعة، وحروب صغيرة، وأمراء يلهثون وراء النفوذ. لكنه لم يرَ أن السيف هو الحل، بل الأخلاق. قال بوضوح إن الحاكم بلا فضيلة لا شرعية له، وإن المجتمع بلا عدالة لا يستقر، وإن التعليم ليس امتيازًا لطبقة وإنما حق لكل إنسان. بكلمات قليلة وضع الفيلسوف أسس رؤية ترى السياسة كفن تهذيب لا مجرد صراع مصالح.
ومن هنا تبدو ذكرى ميلاد كونفوشيوس أكثر من مجرد احتفال صيني بمرور أكثر من ألفين وخمسمائة عام على ولادته؛ إنها لحظة تأمل عالمي في العلاقة بين الفلسفة والسياسة، بين الحكمة والقوة، بين الماضي الذي لا يموت والمستقبل الذي يتشكل أمام أعيننا. فإذا كانت الصين اليوم تستحضر إرث هذا الفيلسوف في سياق صعودها العالمي، فإن السؤال الأعمق يتعلق بمدى قدرة الأفكار القديمة على أن تقدم إسهامًا في صياغة النظام الدولي الجديد في القرن الحادي والعشرين.
ما مثَّله كونفوشيوس في الشرق يعادل ما مثَّله أفلاطون في الغرب حين كتب "الجمهورية"، أو ما حملته مصر القديمة في "ماعت" التي جعلت العدالة نظامًا كونيًا يربط الأرض بالسماء، أو ما رسَّخه الإسلام لاحقًا حين جعل الشورى والعدل أساس الحكم. ومنذ ذلك الحين، عاشت الصين – بدرجات متفاوتة – على إيقاع الكونفوشيوسية، في السلوك اليومي للأفراد، وفي بنية النظام السياسي والاجتماعي.
اليوم تستدعي الصين هذه الفلسفة القديمة كجزء من قوتها الناعمة. معاهد كونفوشيوس تنتشر في العواصم، وخطابات الرئيس الصيني شي جينبينج لا تخلو من استشهادات كونفوشيوسية.
التاريخ يعلمنا أن القوى الكبرى لا تترسخ بلا فكرة كبرى تحملها. روما رسخت حكمها بالقانون، والمسيحية انتشرت بفكرة الخلاص، والإسلام تمدد برسالة العدل، والثورة الفرنسية أشعلت أوروبا بشعارات الحرية والمساواة والإخاء، والولايات المتحدة قادت القرن العشرين بالليبرالية وحقوق الإنسان، رغم تناقضاتها. وبالتالي، فإن الأفكار ليست زينة الحضارات بل سلاحها الأبقى. لكن هذا السلاح لا يعمل وحده.
انتشار الكونفوشيوسية في العالم يواجه عقبات: أولها أنها تنتمي إلى سياق حضاري قد لا يستوعبه الغرب المجبول على الفردية والحقوق الشخصية. ثانيها أن الصين نفسها كثيرًا ما تُنتقد لأن ممارساتها لا تنسجم دائمًا مع خطابها الأخلاقي، من التعامل مع أقلية الإيجور المسلمة إلى بحر الصين الجنوبي. ثالثها أن الغرب ما زال يملك أدوات هائلة للقوة الثقافية: الإعلام، والسينما، والجامعات، والتكنولوجيا، وكلها تمنحه جاذبية يصعب منافستها.
ومع ذلك، فإن استدعاء كونفوشيوس يعكس إدراك الصين أن الصعود لا يكتمل بالسلاح والمال فقط. الحضارات العظمى دائمًا ما تلجأ إلى فلاسفتها حين تسعى لدور عالمي. واليوم تقول بكين: إذا كان القرن العشرون قرن الليبرالية الغربية، فالقرن الحادي والعشرون قد يكون قرن الانسجام الكونفوشيوسي.
لكن هنا بالضبط يطل الشرق الأوسط على المشهد. هذه المنطقة، بحكم موقعها الجغرافي وثقلها الحضاري، كانت دومًا ساحة اختبار للأفكار الكبرى. في قلبها مصر، التي عرفت "ماعت" كفلسفة للعدل قبل أن يولد كونفوشيوس بقرون، وعرفت الإسلام الذي جعل الشورى والعدالة قاعدة للحكم، وعرفت الأزهر الذي ظل قرونًا يوازن بين العقل والنص، وبين الشرق والغرب. من هنا، تبدو مصر مؤهلة أكثر من غيرها لأن تفهم الكونفوشيوسية في عمقها، لا باعتبارها خطابًا صينيًا فحسب، بل باعتبارها جزءًا من حوار حضارات يطال الجميع.
مصر، في هذا السياق، تملك فرصة تاريخية. فهي دولة حضارية تمتلك رصيدًا فكريًا يجعلها قادرة على أن تكون شريكًا في صياغة القيم لا مجرد مستقبل لها. يمكنها أن تقول للصين إن الانسجام لا يكون فقط بين الدولة والمجتمع، بل أيضًا بين الشعوب المتنوعة في أمة واحدة. ويمكنها أن تقول للغرب إن الحرية لا معنى لها بلا عدالة اجتماعية. بهذا المعنى تصبح مصر جسرًا بين كونفوشيوس والليبرالية، بين الشرق والغرب، بين القيم القديمة والأحلام الجديدة.
النظام الدولي يتشكل من جديد، واللاعبون الكبار يسعون لوضع بصمتهم الفكرية على هذا التشكيل. الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على قيادتها من خلال الليبرالية الغربية، والصين تطرح الكونفوشيوسية كخريطة أخلاقية بديلة، وروسيا تبحث عن إعادة الاعتبار لقوتها التقليدية، وأوروبا تتأرجح بين الطرفين. في مثل هذه اللحظة، لا تكون الطقوس القديمة مجرد احتفال بروحيّات التاريخ، بل تتحول إلى إعلان عن مشروع سياسي جديد.
الاحتفال بكونفوشيوس ليس مجرد تكريم لفيلسوف راحل، وإنما هو رسالة صينية واضحة إلى النظام العالمي المقبل: نحن هنا، ولسنا مجرد قوة صاعدة في الاقتصاد والتكنولوجيا، بل أصحاب فلسفة نسعى لأن تصبح جزءًا من قواعد اللعبة الدولية. ومن ثم، فإن السؤال لم يعد فلسفيًا أو ثقافيًا فقط، بل أصبح سياسيًا بامتياز: هل يقبل العالم أن تكون القيم الكونفوشيوسية أحد أعمدة النظام الدولي القادم، إلى جانب القيم الغربية؟ أم أن الصراع بين واشنطن وبكين سيفرض على الجميع أن يختاروا موقعهم في مواجهة تزداد ملامحها اقترابًا من صراع على مستقبل القرن الحادي والعشرين ذاته؟
رئيس وحدة العلاقات الدولية وخبير الشؤون الآسيوية
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية