على طول الحدود المصرية الليبية، ومن عمق طرابلس وصولاً للعلمين، عاني المصريون والليبيون طويلاَ خلال الحرب العالمية الثانية بين قوات الحلفاء والمحور، عاشوا الشتات والتهجير وتضوروا جوعًا، ونزلت بهم المحن قتلاً وأسرًا ونهبًا، حيث اصبحت خيرات البلدين طُعمة في فم الاستعمار من كل فج عميق، إنجليزيًا كان أم إيطاليًا أوألمانيا، وعُرفت تلك الفترة بين عامي 1940 و1945م، بـ«سنوات الهجة»، وقد يجمعها أهل مطروح فيقولوا «سنة الهجة»؛ لأن سكان تلك المناطق الصحراوية المتاخمة للشريط الساحلي في مصر، هُجروا من أراضيهم تحت وطأة الحرب العالمية الثانية، التي أشعلها الغرب ووجدت ميدانُا لها في الشرق؛ ولأن هذه الفترة مجهولة للكثيرين، فسنروي بعض محطاتها بما لدينا من وثائق ومرويات...
موضوعات مقترحة
التأريخ لتلك الحقبة يستدعي منا أن نعود بآلة الزمن إلى الوراء كثيرًا، حيث فتح برقة الذي تم صُلحاً على يد عمرو بن العاص في عام 22 هـ/ 642م، وذلك بعد فتحه لمصر، حيث سار عمرو بن العاص بجيشه باتجاه برقة ووجد أنها لم تكن بمدينة صحراوية، بل كانت مناطق مأهولة بالعمران والزرع، ولم يواجه مقاومة كبيرة، حيث صالح أهلها على أن يؤدوا الجزية، وانضم إليهم بعض قبائل البربر، وبذلك أصبحت برقة جزءاً من الدولة الإسلامية، لتكون ولاية برقة تحت ولاية الولاة في مصر وأحيانا قد تكون منفصلة عنها مع تغير الدول الإسلامية انتهاءً بالدولة العثمانية، والتى تخلت عن برقة فى جزئيها الشرقى والغربي، فقد تخلت عن الجانب الشرقي وذلك بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م، ثم تخلت عن الجزء الغربي لبرقة بعد دخول الإيطاليين ليبيا عام 1912م، وبذلك انتقلت السلطة الفعلية فى برقة إلى المحتل الإنجليزى والمحتل الإيطالى، حيث شاءت الأقدار أن يتقاسما النفوذ بينهما ضمن إتفاقية توزيع كبرى لتوزيع ممتلكات الخلافة العثمانية علي الدول الأوربية الاستعمارية، فكان قدر برقة أن توزع بين الإنجليز والإيطاليين.
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
هنا سأتطرق الى معاناة سكان الحدود المصرية الليبية، وهى حدود صنعها المستعمر لتمزيق أهل الصحراء، فقد تصالح المستعمرون أولاً عند رسم الحدود، ثم ما لبثوا أن تعاركوا وتحاربوا وراحوا يوسعون أهل البادية من السكان الأصليين قتلاً وأسرًا وسلبًا ونهبًا.
تركيا أو الدولة العثمانية والتى حكمت مصر وبرقة اسميا بين عامي 1835 إلى 1912م، حتى توسعات محمد علي باشا الذي حاصر الدولة العثمانية ذاتها، انتهاءً بمعاهدة لندن عام 1841م، أصدرت فرمانُا من الباب العالي يوم 13 فبراير عام 1841م بتنصيب محمد علي باشا حاكمًا لمصر، على أن تبقى مصر تحت السيادة العثمانية، وكان ذلك الفرمان مصحوبًا باول خارطة توضح الحدود الإدارية لمصر.
في عام 1882م، وقعت مصر تحت الاحتلال البريطاني، ثم ما لبثت بريطانيا أن اعلنت الحماية عليها في 18 ديسمبر 1914م، الى ان تم اعلان استقلال مصر بموجب تصريح 28 فبراير 1922م.
في ذلك الوقت كانت عين إيطاليا عينها على ليبيا وتونس، لكن الفرنسيين سبقوهم إلي تونس منذ بداية القرن التاسع عشر، كما أن البرلمان الإيطالي ناقش في عدة جلسات مثلا فى مارس 1903م وكذلك عام 1910م قلق ايطاليا من اهتمام بريطانيا بخليج البمبة؛ لاحتمال احتوائه على مناجم فحم، وكيف ان تلك السلطات أصبحت تنشر خرائط للحدود بين مصر وليبيا تمتد إلى البردية وراس الملح.
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
بعد أن استقلت مصر بموجب تصريح 28 فبراير 1922م، بدأت ايطاليا مناقشاتها المباشرة مع الحكومة المصرية بعد أن كانت تتعامل مع بريطانيا سابقًا في ترسيم الحدود المصرية الليبية، حيث عمدت إلى حسم أمر ترسيم الحدود في اتفاقية القاهرة التي عُرفت بـ(الإتفاقية الإيطالية المصرية) لترسيم حدود برقة - مصر في يوم 6 ديسمبر1925م، حيث كانت هذه الاتفاقية مصحوبة بأربعة خرائط، هي:
1- خارطة شاملة للحدود المتفق عليها بالتفصيل.
2 ـ خارطة مكبرة وتفصيلية للجزء العلوي المتعرج من ساحل البحر شمالاً إلى خط العرض 29 جنوب الجغبوب.
3- خارطة تفصيلية لمنطقة السلوم والرملة - بين السلوم و البردية.
4 ـ الخريطة العثمانية التي صاحبت فرمان الباب العالى لتنصيب محمد على باشا والمؤرخة 13 فبراير 1841م، والتي تعد أول خريطة توضح الحدود الإدارية لمصر.
وقد سارعت الحكومة الايطالية في التصديق على الاتفاقية، ولكن لم يتم تصديقها من قبل الحكومة المصرية إلا في 7 يوليو 1932م، ونُشرت في الجريدة الرسمية (بالفرنسية) لحكومة مملكة مصر.
وبعد إقرار إتفاقية 6/ 12/ 1925م، تبعتها إتفاقية لبعثة مصرية -ايطالية مشتركة لجنة ميدانية في 9 نوفمبر 1926م لتثبيت تفاصيل الحدود على أرض الواقع للجزء الشمالي المتعرج للحدود، وهذه البعثة المشتركة نشرت تقريرها النهائي في أبريل 1927م، والذي نُشر في الجريدة الرسمية للمملكة المصرية.
التزمت الحكومة المصرية بالاتفاقية التي استغرقت 13 عاما من يوم 6 ديسمبر 1925م إلى أن تم تنصيب أعمدة وعلامات الحدود النهائية والثابتة يوم 3 مايو عام 1938م، وما تخللها من لجان ومفوضيات ميدانية مشتركة بين الدولة المصرية وليبيا الإيطالية مباشرة وبدون التدخل البريطاني.
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية وتحول الإنجليز والايطاليين لأعداء حرص كل من الجانبين علي تحييد سكان المنطقة الأصليين من سكان مصر وليبيا ليتفرغا للنزاع الدولى بينهما، ومحاولة كل منهما أخذ نصيب الآخر من مستعمرات شمال إفريقيا
فازداد الإنجليز فى إخلاء الصحراء الغربية من سكانها وترحيلهم ترحيلاً قصريًا عانى فيه أهل البادية أشد المعاناة، حيث كان الترحيل غير منظم، فتُرك لكل قبيلة ونجع تدبير أمر أفرادها من خلال وسائل نقل بدائية، اعتمدت علي الحيوانات كالابل والخيل والحمير وحمل متاعهم وأولادهم عليها، والسير بهم لمئات الكيلومترات، تاركين ورائهم نجوعهم وأراضيهم، فيما قامت قوات الاحتلال بهدم بيوتهم وردم آبارهم وتتركهم يرحلون عبر الصحراء مشيًا علي الأقدام؛ مما خلف منهم آلاف الضحايا من الأطفال والمرضى والعجائز الذين لقوا حتفهم أثناء التهجير، إما من شدة التعب أو من الجوع الذى كان يفتك بهم، ولم يخفف من وطأته إلا لجوء بعض الأهالى إلى أكل الأسودين (التمر والماء) وصيد جرذان وجرابيع الصحراء، فضلاً عن مخلفات معسكرات الاحتلال البريطانى علي طول الساحل، يقتاتون من بقايا طعامهم؛ مما شكل قصصًا ومأسي لا تزال تروى، مر بها أبناء البادية أثناء الهجة، ومنها قصة طفل صغير لم تقدر أخته علي حمله فتركته وحيدا يلقى مصيره فى الصحراء بعد عجزها على حمله والسير به، ولما خشيت من لحاقه بها وضعت فى حجره حجرًا لكى لا يلحقها، ولكن بعد فترة حن قلبها عليه وعادت إليه، فكتب الله له الحياة، وعاش هذا الطفل حتى بلغ الثمانين من عمره ومات مؤخرًا.
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
ومن أبطال الهجة أيضا المرحوم الحاج مجيد سليمان الفرجاني بو خذرة العروى، أحد عواقل قبيلة العراوة ومنطقة حنيش في القرن التاسع عشر، وكان من كبار تجار الأغنام وسيد كحيلة (صاحب إبل) في زمانه، وُلد عام 1855م بمنطقة الكراميس جنوب شرقی القصابة - مدينة مرسى مطروح بالقرب من سيدى حنيش، ووافق يوم ولادته وفاة القيصر "نيقولا الأول" إمبراطور روسيا، وكذلك وفاة "خسرو محمد باشا" الصدر الأعظم للدولة العثمانية، وحصار سيفاستوبول عاصمة شبه جزيرة القرم، وتوفى عام 1972م بمحافظة مطروح عن عمر ناهز 117 عاماً، وقد ترك هذا الرجل ماله وأرضه وارتحل قسرا في الحرب العالمية الثانية "سنة الهجة " عام 1940م من مرسى مطروح إلى البحيرة مشيًا على الأقدام مروراً بالعامرية، وهكذا حتى استقر به المقام في منطقة الذراع البحرى.
ومن أبطال سنوات الهجة أيضا المرحوم الحاج مجيد بو معفس العشيبي من مواليد عام ١٨٨٥م وتوفي عام 1990م، حيث رحل صغيرًا من قريه القصر إلى مدينة برج العرب؛ وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1915م، وعمل بحفر الخنادق مع القوات الإنجليزية لمنع عبور الدبابات الإيطالية من العبور سنة 1914م، وفى الوقت تم ضرب موقع الحفر من الطائرات الإيطالية وأستشهد بعض العمال معه، وانتقل إلى منطقه كينج مريوط، حيث عمل في اسطبل للخيول تابع للقوات الإنجليزية، حيث اكتسب اللغه الإنجليزيه بمهارة فأعجبت به ضابطه من الجيش الإنجليزي للغته وذكائه، وعرضوا عليه العمل معها في مجال الغزل والنسيج، وبدأ مشروعه من فى صناعة الأنسجة والكليم والغطاء البدوي والحويا والنويري (أنواع من المنسوجات البدوية)، ثم عرضوا عليه السفر إلي بلاد الشام لعرض المنسوجات فوافق ـ رحمة الله عليه ـ، وتم السفر عبر القطار إلى فلسطين التي كانت تحت الاحتلال البريطاني عبر غزة ووصلوا إلي القدس، وأقام بالمسجد الأقصى أولي القبيلتين وثالث الحرمين ثلاثة أيام وبعدها ،تم قرر الرجوع إلي مصر.
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
وازدادت وتيرة التهجير فى الفترة بين عامي 1939 و1945م، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، خُير أهل البادية بين العودة لنجوعهم أو البقاء فى مناطقهم الجديدة، لكن الغالبية العظمى منهم عادت، بعد انتهاء الحرب ومنهم من فضل البقاء فى البحيرة ولم يرجع ولكن العائدون تفاجئوا بآثار الدمار الذي خلفته الحرب داخل المدن والقرى والنجوع التي غادروها إلى رأس الترعة بمحافظة البحيرة؛ حفاظاً على أرواحهم من هذا الدمار، فأطلق أهالي مطروح على هذه الهجرة وسنوات الحرب تلك «سنة الهجة».
بدوره يقول المؤرخ د ج.كول:"شكلت الحرب الكونية الثانية كارثة على الساحل الغربي لمصر وسكانه، فقد حاربت الجيوش الإيطالية والألمانية والبريطانية على هذه الأرض، أمر الإنجليز بمغادرة العرب لهذه المنطقة (من السلوم إلى العلمين) وأجبروا على الرحيل إلى العامرية وبرج العرب ومناطق أخرى قريبة من وادي النيل، وعندما أصبح الوادي يزدحم بأهل الصحراء، سمح الإنجليز للبعض بالعودة، حيث نفقت في الطريق كثيراً من الحيوانات التي كان أصحابها يحاولون العودة بها".
أما الرحالة الإنجليزي بوجر فيسوق روايته عن تلك الفترة، فيقول:"عاد العرب بعد هزيمة الألمان إلى أوطانهم ليجدوا الأشجار قد قُطعت، والآبار سُممت، والصهاريج دمرت، وزُرعت الصحراء بالألغام، ولم يكن لدى العرب ما يكفي حاجتهم من الشعير.. رغم ذلك كافح هؤلاء البدو ليبدأوا حياة جديدة دون أدنى مساعدة من العالم (سبب هذه الكارثة)".
الأثري عبد الله إبراهيم موسى
مدير منطقة آثار مطروح للآثار الإسلامية والقبطية
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
صور لأهل بادية مطروح والساحل الشمالي خلال سنة الهجة
مجيد بو معفس أحد رجال مطروح الذين حضروا سنة الهجة
الأثري عبد الله إبراهيم موسى في متحف العلمين