تتقلص الأصوات الملتفة تدريجيًا داخل الكيان المحتل حول مجرم الحرب، رئيس الوزراء المتطرف بنيامين نتنياهو، في ظل تصاعد حالة التململ من قيادته المهترئة، لتبدأ ملامح التشظي تظهر ببطء ولكن بثبات، داخل أروقة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة.
وتبرز، بعد مضي فترة طويلة على اندلاع الحرب، أسماء أخرى داخل الائتلاف الحاكم، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، اللذين علّقا بحدة على الكمين النوعي الذي نفذته كتائب القسام – الجناح العسكري لحركة حماس – في بيت حانون شمال قطاع غزة، وأسفر عن مقتل خمسة جنود وإصابة أربعة عشر آخرين.
بن غفير طالب بإعادة الوفد التفاوضي من محادثات الدوحة، رافضًا فكرة التفاوض مع "من يقتل جنودنا"، بحسب تعبيره، ومطالبًا بتشديد الحصار، ومنع المساعدات الإنسانية، وتكثيف الضربات العسكرية والاستيطان ودفع الفلسطينيين للهجرة، معتبرًا الصفقة المطروحة تنازلات لا تليق. ولم يبتعد سموتريتش كثيرًا، إذ دعا إلى إنهاك المقاومة وتطويق مناطق القتال، بما يؤشر على نزعة تصعيدية مفتوحة على كافة الخيارات.
غير أن العملية التي نفذتها المقاومة، لم تكن حدثًا معزولًا، بل تأتي ضمن سلسلة من الضربات النوعية المتكررة في الشمال والجنوب، في خان يونس ورفح، كان آخرها عملية موجعة وصادمة من الناحية التكتيكية، بحسب اعتراف إعلام العدو، الذي أقر بأن الكتيبة المستهدفة تلقت "الضربة الأشد في تاريخها"، في أكثر العمليات دموية منذ تأسيسها قبل ستة وعشرين عامًا.
هذه العملية رفعت عدد القتلى العسكريين الإسرائيليين إلى 449، وهو رقم مرشح للارتفاع، بعد اعتراف الاحتلال مؤخرًا بمقتل خمسة جنود وقادة إضافيين. المقاومة، من جانبها، أكدت استمرار معركة الاستنزاف، محذرة نتنياهو من "قرارات غبية" تقضي بالإبقاء على القوات داخل القطاع، ومشيرة إلى أن كل يوم يمر سيحمل خسائر جديدة وربما عمليات أسر. ويعكس هذا التصعيد تصدعًا عميقًا في سردية الاحتلال بشأن "تحقيق أهداف الحرب"، في ظل الفشل الميداني على الأرض واستمرار المجازر والتجويع، دون أي نتائج ملموسة تُسوق للرأي العام الداخلي أو الخارجي.
يقف نتنياهو اليوم أمام مفترق طرق حرج، تحاصره الضغوط الداخلية المتصاعدة، لاسيما من عائلات الجنود الذين لم يتلقوا حتى كلمة عزاء منه، كما يواجه غضب أسر المحتجزين والرهائن لدى حماس، الذين باتوا الورقة الوحيدة التي تملكها حكومته لتبرير استمرار الحرب. وعلى الجانب الآخر، يلوح الرئيس الأمريكي ترامب – في محاولته للظهور كرجل سلام – بإغراء وقف الحرب مقابل التزام إسرائيلي بكبح الخطر الإيراني.
ترامب يسعى إلى تقديم نفسه للداخل الأمريكي والعالمي كقائد يسعى للسلام، في مسعى واضح لنيل جائزة نوبل، وهو ما ظهر في المشهد الكاريكاتيري حين تسلم نتنياهو رسالة ترشيح ترامب رسميًا للجائزة، كنوع من التبادل السياسي الرمزي. اللقاء بين الطرفين لم يخلو من التوتر، فقد جاءت نتائجه دون التوقعات، وأعقبته خطوة مثيرة للجدل بفرض عقوبات على خبيرة الأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي، التي كانت قد وصفت العدوان على غزة بالإبادة الجماعية المدعومة أمريكيًا، ما يعكس التخبط الأمريكي في محاولة الموازنة بين إرضاء اللوبي الصهيوني والضغوط الدولية المتصاعدة لوقف الحرب.
يبدو أن كلاً من واشنطن وتل أبيب يسعيان إلى إنهاء الحرب بأقل قدر من الخسائر السياسية، حيث يريد نتنياهو الظهور كمن "حافظ على أمن إسرائيل من الخطر الإيراني"، رغم الفشل في القضاء على حماس، فيما تحاول واشنطن الحد من الانعكاسات السلبية لحرب موصوفة دوليًا بأنها تطهير عرقي. وتزداد الضغوط من الشارع العالمي، ومن منظمات حقوق الإنسان، ومن الأصوات الحرة التي ترفض هذه الإبادة الجماعية، ما يعزز الدفع نحو وقف الحرب.
في هذا السياق، يبرز الدور الفرنسي، خصوصًا بعد مشاورات متكررة مع الجانب المصري على المستوى الرئاسي والدبلوماسي، ويعاد طرح مرحلة "ما بعد الحرب" والتي تشمل إعادة إعمار غزة، مع الحديث عن انسحاب القوات الإسرائيلية من مساحات واسعة من القطاع احتلتها في الشهرين الماضيين. ويعيد ذلك إلى الواجهة مطالب طالما اعتُبرت جوهرية: إقامة دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
لكن هذه المطالب ما زالت تصطدم برفض أمريكي – إسرائيلي غير معلن، إذ يسعى وسطاء واشنطن لتأجيل بحثها إلى ما بعد انتهاء المفاوضات، التي دخلت فعليًا في نفق مظلم، بعد تعنّت الاحتلال وإصراره على خارطة انسحاب تضمن إعادة تموضع جيشه في أكثر من 40% من مساحة القطاع. من الطبيعي أن ترفض حماس هذا الطرح، الذي يُنظر إليه كمناورة لإعادة فرض السيطرة العسكرية على غزة، واستكمال مشروع التهجير القسري. ومثل هذا السيناريو لا يعني سوى تقويض أي فرصة حقيقية للسلام، والانقلاب على أي اتفاقات قد تلوح في الأفق.
وتظل الأسئلة مطروحة حول إمكانية تفعيل دور عربي أوسع وأكثر فاعلية، يمكنه دعم المبادرة المصرية، والتعامل مع رهانات نتنياهو وترامب المتغيّرة، في ظل التحول الواضح في الموقف الدولي من الدعم غير المشروط بالسلاح والسياسة إلى الضغط للإقلاع عن حرب فاشلة. وتتصاعد الأصوات التي تصف ما يحدث في الأراضي الفلسطينية صراحة بأنه تطهير عرقي، ما يُحتم العمل على تحويل هذا التأييد الدولي إلى ضغط سياسي يُفضي إلى حل عادل وشامل.
الحل الذي يتجاوز مجرد فتح المعابر ودخول المساعدات مقابل الرهائن، ليكون مدخلًا نحو إنهاء الاحتلال، ومنع محاولات شرعنته من جديد، أو إعادة احتلال القطاع. ذلك أن القضية الفلسطينية، التي عادت للواجهة دوليًا، باتت اليوم أمام لحظة فاصلة، والمطالب بإقامة الدولة المستقلة أصبحت شرطًا أساسيًا لأي استقرار دائم، وحقًا لا مجال للتنازل عنه، وشرطا رئيسيا لتحقيق السلام.