بينما تتواصل حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة للشهر العشرين، بدأت مفاوضات لوقف إطلاق النار وليس الحرب. وكأن ما حل بالقطاع من تدمير وقتل وحرق وجرائم إنسانية ارتكبها جيش الاحتلال وتشكل في مجملها جرائم حرب مكتملة الأركان، لم يكفِ المحتل ومن يقدم له السلاح الفتاك سواء أمريكا أو دول أوروبية، فيواصل الإجهاز على ما تبقى من أهل غزة على قيد الحياة بعد مهلة الستين يومًا التي يجرى حولها التفاوض المزعوم.
ولا شك أن المعطيات والمتغيرات التي تمر بها المنطقة بعد حرب إسرائيل وإيران تشير إلى وجود مناخ جديد ومعطيات مختلفة تتطلب تغييرًا في الأولويات وتعديلًا في التوازنات والحسابات بالمنطقة، وأولها الحرب على غزة.
فاليوم أمريكا اللاعب الأساسي في المنطقة تريد إعادة هندسة المنطقة بعد حرب إيران وإسرائيل وترى البداية بترتيب الوضع في غزة عبر تغيير على الأرض تحت تهديد السلاح وليس وقف الحرب؛ إذ أنها في فترة الـ 60 يومًا يجرى خلالها التفاوض على ما يعرف بـ "اليوم التالي" ويعني بالنسبة لإسرائيل وأمريكا خروج حماس وسلاحها من غزة وإعادة إعمارها وفق رؤية ترامب ونتنياهو في ظل إدارة يتم اختيارها.
كما يشير السيناريو أيضًا إلى أن إسرائيل لن تغادر قطاع غزة وكل ما يحدث هو إعادة تموضع للقوات المحتلة، وتظل الهيمنة والسيطرة لها وتمارس عملياتها في القتل والتدمير متى أرادت وحيث شاءت.
في المقابل، فإن فصائل المقاومة ترى أن نزع السلاح والخروج من غزة يعني بالنسبة لها الاستسلام التام وضياع حق الشعب الفلسطيني، خصوصًا إذا كانت الإدارة المقترحة في اليوم التالي ستتم دون إرادة فلسطينية.
وهنا تبرز الهوة وتتسع الفجوة بين الموقفين، بينما يدفع الشعب الفلسطيني أثمانًا باهظة جراء هذا العدوان الوحشي الذي زاد في وحشيته باستخدام سلاح التجويع ضد السكان، وتحولت نقاط توزيع المساعدات إلى مصائد لقتل المجوعين كل يوم بالعشرات تحت سمع وبصر العالم وفي مشهد كارثي لم يعرفه التاريخ من قبل.
إذن الأمر هو صراع إرادات وليس مفاوضات تقوم على مبادئ تلزم المحتل بالانسحاب من غزة وتوقف هذه المجازر المروعة التي ترتكب كل يوم في حق هذا الشعب منذ ما يقرب من العامين، راح ضحيتها نحو 56 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف مصاب وهدم نحو 80% من منازل المواطنين.
بعض المحللين يرون أن إسرائيل في حاجة إلى هدنة الـ 60 يومًا المقترحة في اتفاق وقف إطلاق النار لإعادة ترتيب أوراقها ووقف الضغط الشعبي الداخلي على الحكومة سواء بسبب عدم تحرير أسراهم لدى المقاومة أو بسبب تزايد عدد قتلاهم في الحرب، وبعد ذلك تستأنف القتال تحت أية ذرائع قد تنشأ عبر التفاوض، فقد دأبت هذه الحكومة المتطرفة على نقض العهود والوعود وقد حدث قبل ذلك عدة مرات.
في المقابل، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبحث أيضًا عن صورة نصر يضيفها إلى ما يعتبره انتصارات له في قضايا وملفات بالعالم بدأت بوقف الحرب بين باكستان والهند ثم إسرائيل وإيران، ويسعى جاهدًا لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا ويتوج هذه الصورة بوقف مؤقت للحرب على غزة يستغلها في دعايته اليومية منذ توليه الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض كرجل سلام يستحق جائزة نوبل وسيحصل عليها رضًا أو تهديدًا.
أما مصير غزة الجريحة المدمرة فسيبقى مجهولًا وشعبها الصامد سيظل للأسف تحت وطأة الجوع والمرض والموت إلى أن تضع الحرب أوزارها ويقضي الله أمرًا يعيد لهذا الشعب حقوقه المسلوبة.
وفي جميع الأحوال فإن هدنة الأيام الستين المزمع التوافق عليها ربما توفر فرصة لالتقاط الأنفاس لهذا الشعب الذي يستحق نوبل في الصبر والإرادة والعزيمة.
"وبشر الصابرين".
[email protected]