البرنامج النووي الإيراني بين الانكشاف الأمني وتفكك النظام الإقليمي

6-7-2025 | 13:05

يشهد الملف النووي الإيراني تطورات نوعية تشير إلى تغيرات جوهرية في آليات التفاعل الإقليمي والدولي مع طهران. فلم يعد التعامل مع هذا الملف محصورًا في إطار الاتفاقيات الرقابية أو المفاوضات الثنائية، بل انتقل إلى مسار يعتمد بشكل متزايد على استخدام القوة المحدودة والتصعيد الميداني، وهو ما يطرح تساؤلات حول مستقبل الاستقرار الإقليمي، ومصير ترتيبات الأمن الجماعي في الشرق الأوسط.

أولًا: مظاهر التحول في سياسة الردع والرقابة

١. انسحاب مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية

مثّل تقييد وصول المفتشين الدوليين إلى المنشآت الإيرانية تطورًا خطيرًا يقوض أسس الشفافية التي قام عليها الاتفاق النووي لعام 2015 (JCPOA).

انعكس ذلك على تزايد الشكوك في نوايا إيران، وتصاعد المخاوف الغربية والإقليمية بشأن إمكانية تسريع أنشطة التخصيب دون رصد.

٢. الهجمات على منشآت استراتيجية

شملت عمليات الهجوم مواقع بالغة الحساسية مثل نطنز وفوردو وأصفهان، حيث أظهرت قدرة خصوم إيران على توجيه ضربات سيبرانية أو ميدانية دقيقة دون إعلان المسؤولية رسميًا.

دفعت هذه الهجمات إيران إلى تعزيز دفاعاتها، ما ساهم في تصاعد «دوامة الأمن» بدلاً من احتوائها.

٣. تراجع فعالية الأطر الرقابية التقليدية

فشلت الآليات القائمة على الرقابة والتفتيش وحدها في طمأنة الأطراف الإقليمية والدولية، لتتحول تدريجيًا سياسة الردع إلى خيارات هجومية.

ثانيًا: تداعيات غياب الثقة ودوامة الأمن

١. دوامة الأمن كمعضلة هيكلية

يُقصد بها سلسلة الأفعال وردود الأفعال التي تزيد كل منها من مستوى التهديد المتصور لدى الأطراف الأخرى.

في الحالة الإيرانية، أدت محاولات طهران لتقوية برنامجها النووي (لأغراض دفاعية بحسب خطابها الرسمي) إلى مبررات جديدة للتصعيد المضاد.

٢. غياب إطار أمني منظم

أدى انعدام الثقة المتبادل وغياب نظام أمني إقليمي شامل إلى هشاشة توازن القوى، ما ينذر بإمكانية انزلاق المنطقة إلى مواجهات عسكرية مباشرة أو حروب بالوكالة.

٣. انهيار الضمانات الجماعية

النظام الدولي الذي كان يوفر ضمانات أمنية، سواء عبر الاتفاق النووي أو عبر قنوات دبلوماسية موازية، أصبح عاجزًا عن إقناع الأطراف بالتزامات متبادلة.

ثالثًا: الآثار البنيوية على ميزان القوى الإقليمي

١. مخاطر الوصول إلى العتبة النووية

تمثل العتبة النووية (امتلاك القدرة التقنية لإنتاج سلاح نووي عند الحاجة) نقطة تحول قد تفتح سباق تسلح إقليمي واسع النطاق.

تسارع دول مثل السعودية والإمارات وتركيا لدراسة خيارات نووية أو تطوير قدرات عسكرية لموازنة إيران.

٢. تآكل قواعد الردع التقليدية

يزيد التصعيد الحالي من احتمالية انهيار قواعد الاشتباك غير المعلنة، ويهدد باندلاع نزاعات خارج حدود إيران، بما في ذلك الخليج وسوريا ولبنان.

٣. التأثير في التوازن الدولي

التوتر في الخليج يفرض تحديات كبرى أمام مصالح الولايات المتحدة والصين وروسيا، ما يربط الأزمة بمصالح دولية متعارضة قد تعقد فرص التسوية.

رابعًا: السيناريوهات المستقبلية وآفاق الحل

١. سيناريو استمرار الضغوط والتصعيد

سيؤدي ذلك إلى مزيد من الضربات المتبادلة، ويقوض فرص العودة لأي اتفاق دولي، مع زيادة احتمالات الحرب المباشرة.

٢. سيناريو العودة إلى المفاوضات

يتطلب هذا قبول الأطراف بتقديم تنازلات متبادلة وضمانات أمنية جديدة، مع إعادة تعريف آليات التفتيش والرقابة بطريقة أكثر واقعية ومرونة.

٣. سيناريو هيكلة أمن إقليمي جديدة

يرتكز على دمج إيران ضمن معادلة أمن جماعية، عبر حوار إقليمي-دولي يراعي المصالح المتعارضة ويضمن قواعد اشتباك واضحة ومستدامة.

تكشف المستجدات المحيطة بالبرنامج النووي الإيراني عن خلل بنيوي في النظام الأمني الإقليمي والدولي، حيث استبدلت الحلول الدبلوماسية التقليدية باستراتيجيات تصعيدية تزيد من هشاشة المنطقة. ما يطرح تساؤلًا مهمًا: هل تمتلك الأطراف الإرادة السياسية اللازمة للانتقال من سياسة «الضغوط القصوى» إلى مقاربة استراتيجية شاملة تتيح بناء شرق أوسط آمن وقادر على احتواء الأزمات المتكررة؟

أؤكد مجددًا أننا بحاجة إلى صياغة هيك للأمن الإقليمي بشكل شامل، بحيث يقوم على دمج إيران ضمن منظومة ترتكز على قواعد أمنية مشتركة، وتوفير آليات شفافة لتسوية الخلافات وخفض التصعيد، مع وضع اعتبارات التوازن بين المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى والإقليمية في الحسبان. هنا تكتسب مقاربة «الأمن الجماعي» أهمية متجددة، ليس بصفتها بديلاً عن الردع التقليدي فحسب، بل كوسيلة لإعادة بناء الثقة وكسر حلقة العداء التاريخي التي طالما غذت سباقات التسلح في الشرق الأوسط، مع التأكيد على أهمية أن يكون الشرق الأوسط بالكامل خاليًا من السلاح النووي ضمانًا لتحقيق "العدالة النووية" وتصفير السباق النووي.

كلمات البحث
الأكثر قراءة