«قسمة ونصيب».. حين يروي نجيب محفوظ انقسام العقل البشري قبل أن يكشفه العلم

5-7-2025 | 12:53
;قسمة ونصيب; حين يروي نجيب محفوظ انقسام العقل البشري قبل أن يكشفه العلمنجيب محفوظ
بقلم: أحمد حسين قنديل

لطالما عُرف نجيب محفوظ بقدرته الفذة على تحويل الغرابة إلى واقع، وعلى صوغ الأسئلة الوجودية في شخصيات وحكايات تشبهنا رغم بعدها عن العادي. وتأتي قصة قسمة ونصيب لتكون من تلك القصص التي تبدو في ظاهرها خيالية، لكنها تنفذ إلى لبّ سؤال الهوية والانقسام البشري العميق.

موضوعات مقترحة

أولاً: ملخص القصة كما رُويت

لسنواتٍ طوال، كانت زينب وزوجها العجوز يحلمان بالإنجاب، وأخيرًا تحقق الحلم. لكن عند الولادة جاءت المفاجأة: طفل بجذع مشترك ينقسم من فوق السرّة إلى شخصين. علّقت الطبيبة على استحياء: “إنه أمر نادر الحدوث”، ثم تركتهما للمجهول. سمّت الأم الطفل الغريب قسمة ونصيب.

مع الوقت، ظهرت شخصيتان متمايزتان داخل الجسد الواحد: قسمة، المسالم، المتدين، الحالم بأن يصبح عالمًا، ونصيب، الشرس، المندفع، الباحث عن المتعة والمغامرة. ونتيجة هذا التناقض، تنشب الخلافات. قسمه يود استذكار دروسه ونصيب يرغب في اللعب. قسمه يرغب في الذهاب للجامع، ونصيب يود الذهاب للسينما. يصل الأمر أحيانًا إلى الشتائم واللكمات، فيتدخّل الأهل ويضعون بنودا للصلح.

في أحد الأيام، طلب نصيب الذهاب إلى سيرك المدينة، وهناك رأى راقصة وواعدها، ثم قرر الذهاب إلى مقرها. رفض قسمة، لكن الجسد انصاع في النهاية لرغبة نصيب، فيما ظل قسمة يتحمّل تأنيب الضمير.

تدهورت صحة نصيب بسبب الإفراط في الشراب والمتع. حاول قسمة أن يثنيه عن الإفراط، لكن صحته استمرّت في التدهور حتى مات. صدمت الأسرة، ووقف الأطباء أمام معضلة: جسد نصفه حي ونصفه ميت. فأوصى الطبيب بتحنيط نصيب داخل الجسد. ومنذ ذلك الحين، بات قسمة صامتًا زاهدًا، شاردًا، كأنما فقد الرغبة في الحياة.

ثانيا التحليل: هل بداخل كلٍّ منا “قسمة ونصيب”؟

لم تكن قصة “قسمة ونصيب” مجرد خيال عن توأم ملتصق، بل مفتاحًا لفهم أعمق للصراع الإنساني الداخلي. ومن المفارقات أنها كُتبت في وقتٍ متقارب مع اكتشاف الدكتور روجر دبليو سبيري من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، الحائز على جائزة نوبل عام 1981، أن نصفي الدماغ ليسا نسختين متطابقتين كما كان يُظن، بل لكلٍّ منهما وعي وإرادة مختلفة، وإن كان النصف الأيسر عادة هو المتحكم.

كان الدكتور سبيري يعالج مرضى الصرع الشديد بقطع الألياف العصبية بين نصفي الدماغ، وهو ما أدى إلى ما يُعرف بظاهرة “الدماغ المنقسم”. هنا تحرّر النصف الأيمن من ديكتاتورية الأيسر، وبدأ يتصرّف ككيان مستقل، ما خلق مواقف غريبة وموثقة، مثل رجل كان على وشك احتضان زوجته بإحدى يديه، فقط لتفاجئه يده الأخرى بصفعه على وجهها. أو امرأة كانت تختار فستانًا بيد، بينما يدها الأخرى تسحب فستانًا آخر.

وقد أجريت تجارب لفهم ما يدور في النصف الأيمن، الذي لا يمتلك القدرة على النطق. استخدمت حروف سكرابل ليسمح للنصف الصامت بالتعبير، وكانت النتائج مذهلة. في إحدى التجارب، سُئل النصف الأيسر عن خططه بعد التخرج فأجاب: “أن أصبح رسّامًا هندسيًا”، بينما كتب النصف الأيمن: “سائق سباقات”. بل إن بعض المرضى أظهروا معتقدات دينية متناقضة بين النصفين؛ أحدهم قال بلسان الأيسر إنه ملحد، بينما كتب الأيمن: “أنا مؤمن”.

إنها صورة مدهشة توحي بأننا نحمل في جمجمتنا شخصين لا واحدًا؛ أحدهما يسيطر، والآخر ساكن، لكنه حيّ.

ثالثا: الرمزية في القصة

 •    الجسد الواحد يرمز إلى الإنسان الواحد الذي يسكنه التناقض والصراع.
    •    قسمة تمثل الضمير، الزهد، والروح.
    •    نصيب يمثل الغريزة، اللذة، والنزوة.
    •    تحنيط نصيب قد يرمز إلى قمع جزء من النفس، لكن النتيجه ان يترك الإنسان في عزلة وزهد وجمود.
    •    القصة تطرح السؤال الصعب: كيف يعيش الإنسان في ظل تناقضاته؟ من القائد؟ ومن التابع؟ وهل تستقيم الحياة إذا اختلف الرأسين على الوجهة؟

رابعا: الدماغ كشركة والوعي كإدارة

في ضوء ما سبق، شبّه علماء الأعصاب الدماغ بشركة كبرى فيها آلاف الموظفين والمراكز، يقودها المدير التنفيذي (CEO) في القشرة الأمامية للدماغ، الذي يصله فقط أهم المعلومات. أما بقية القرارات، خصوصًا العواطف والانفعالات، فتُتخذ في مستويات أدنى – مثل الجهاز الحوفي – كردود فعل سريعة تحكمها الغرائز والخبرات التطورية.

الوعي هنا ليس كيانًا بسيطًا، بل نتيجة صراع داخلي بين وحدات متعددة تحاول كلٌّ منها لفت انتباه القائد، وغالبًا ما ينتصر الصوت الأعلى، لا الأذكى. لذا، قد يكون إحساسنا بوحدة الذات وهمًا ناتجًا عن تغلب مسار واحد من التفكير على بقية المسارات.

كلمات محفوظية على لسان السارد:

“لا تلمني إن كنت قد جئت إلى هذا العالم برأسين. لم أختر، ولم أشكُ، ولكنني عشتُ ومعي سؤال لا يهدأ: من أنا؟"

 

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: