هزتنا جميعا حوادث الطرق الأخيرة, هي أزمة أو كارثة حقيقية خصوصًا إذا ما تعلق الأمر بالإهمال البشري. تحسنت الطرق في مصر كثيرًا, ولا نحتاج لمؤشر دولي, لأننا نشاهد التطور الحاصل كلما سافرنا خارج مدننا.
التحديث أيضًا طال مراقبة الطرق داخل المدن وخارجها بالكاميرات والرادار. لكن يبقى دائمًا شيء ناقص ينغص علينا الحياة, عندما نتابع أي حادث وآثاره المحبطة، وكما نعرف فإن الكاميرات تسجل, وهو ما يخص تحقيقات ما بعد الكارثة, والرادار يلتقط الأرقام, وهو ما يسجل المخالفة لدفع الغرامة.. ولكن للأسف كل هذا لا يمنع الحوادث, لأنه يفكر فيما يترتب عليها من عقاب.. أما منع أو الحد من الحوادث على الطرق فيحتاج إلى تفكير آخر..
يقفز إلى الذاكرة مشهد الكونستابل، رجل الشرطة بجاكيته الجلد الأسود وخوزته اللامعة واللاسلكي, ثم انطلاقته الحاضرة وراء السيارة المخالفة، يخرج لك من كل منعطف وزاوية, لا تعرف كيف, ولا يمكنك توقعه, ثم يوقفك ويكون في حالة اتصال دائمة مع مركزه الرئيسي.
وبخلاف ذكريات أفلام السينما القديمة, فإنني أترحم على عم كامل, الذي كان شجاعًا في حي الساحل بشبرا, وكان مقدامًا في الطرقات, لا يهاب أحدًا, ويطبق القانون. كان يحبنا ويحكي لنا عندما يرانا نلعب مع ابنه, الذي هو زميل الدراسة, عما يفعل. كنا نقترب ونلمس بكل فخر دراجته البخارية التي لا مثيل لها في الحي, نعومتها وقوتها, كفارس من الزمان القديم، وانهي الذكريات بأن أبنه رحمة الله عليه, من أكفأ لواءات الشرطة في مصر.
نعود إلى ذلك الرجل الغائب عن طرقنا, لأنه بوسعه تلقي إشارة من الكاميرات بمخالفة عاجلة, فليحق بالمركبة قبل الكارثة. فضلا عن عامل الردع والخشية التي سوف تستقر لدي قائدي السيارات المهملين الذين هم في حاجة إلى اختبارات رخصة قيادة جديدة من دون شك، ليس هذا فحسب إنما هو رمز الهيبة والانضباط في الشارع. وكلمة "كونستابل" تعني في بريطانيا رجل شرطة برتبة صغيرة نسبيًا ويكلف بحفظ الأمن العام في الأحياء والشوارع.
وعرفنا التخصص في مصر, والذي كان يقبل عليه الشباب الصغير من أصحاب اللياقة البدنية, بعد تدريب ودراسة نظرية وعملية, لم أهتد إلى مدتها, لا أتذكر ولا أعثر على أي مرجع, في مدرسة الشرطة في العباسية.
وباتت "كونستابل" تُطلق على رجل الشرطة الميداني, وبالتحديد راكبو الدراجات النارية.
وكان لهم مهام متعددة في المرور وحفظ الأمن في الاحتفالات المزدحمة, بجانب الخيالة, وتنظيم الأوضاع في المواكب الرسمية, وقبل ذلك وبعده في المطاردات.
أختفى الكونستابل في مصر خصوصًا ما يرتبط من المهنة بالمرور وأخطاره, وصار الاعتماد بالكامل على الكمائن والكاميرات والرادار, ثم إن المخالف مصيره يقع.
لكن هناك دائمًا محاولة لمنع الجريمة قبل وقوعها.. ولا أعرف المسافة التي قطعها قائد اللوري المخالف في حادث صبايا العنب والتي رصدتها الكاميرات, وأهمية أن يكون الحل في منعطف ما، خصوصا أنه بلغ المسئولين أن الطريق في مكان الحادث خطر, وبالتالي ضرورة أن يكون أحدهم هناك, يري بالعين المجردة, أو يتلقي إشارة عبر اللاسلكي, ليلاحق, ويمنع الكارثة, ويوقف السائق المخمور أو المستهتر.
القصة أكبر من طمس لوحات أو حزام لقائد السيارة يا سادة.
رجل الكونستابل ما زال يعمل بكفاءة في باريس ولندن, وهو ما رأيته بعيني, وكدت أدفع غرامة لعبوري سيرًا على الأقدام في مكان غير مخصص لعبور المشاة, وصدقتني الشرطية الكونستابل بأنني لا علم عندي, واطلعت على جواز سفري وتاريخ دخولي البلاد, وكان اليوم نفسه, ثم أعادت دفتر المخالفات, وشرحت لي قواعد السير في المكان, ثم غادرت إلى دراجتها النارية, ومن الأفلام نعرف أن المهنة فاعلة في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان, مع التطوير المستمر.
لم نفقد فقط المشهد الجميل لرجل الكونستابل, وحضوره الإنساني, لكننا نفتقد وظيفته المهمة في الشارع, والتي يمكن أن تتطور أكثر مع الكاميرات والرادار والذكاء الاصطناعي.