بدايةً، ما الذي يحمله هذا العنوان؟ وماذا يريد قوله كاتبه؟ وما غرضه من ذلك؟ وما الذي جعله يُقدم على الكتابة في مثل هذه الموضوعات الشائكة؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟!
إنه فقه الواقع، وفقه الضرورة، وحاجتنا الملحَّة في وقتنا هذا للكتابة عن العودة الحميدة والرجوع إليه تعالى، فأولى خطوات الإصلاح تبدأ بتوبة وعودة جميلة إليه تعالى، فكل عمل سواء كان دنيويًا أو أخرويًا لا نبتغي به وجه الله فهو على صاحبه مردود وغير مبارك فيه ومنقوص.
فإذا أردنا حقًا الإصلاح، إصلاح الذات أولًا الذي إذا ما حدث سينعكس بالضرورة على واقعنا المعيش، ثم إصلاح مجتمعاتنا، فلن يكون ذلك إلا بالإخلاص في الرجوع إليه تعالى.
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) سبحان الله، سمعت هذه الآية الكريمة على محطة إذاعة القرآن الكريم، وكأنني أول مرة أسمعها، فعلى الرغم من أنني أحفظها عن ظهر قلب، كما يحفظها كثيرون ويعرفون معانيها ومفادها وتأويلاتها جميع من قدموا خواطرهم حول القرآن الكريم، لكن عند سماعي لها وأنا في خلوتي بمكتبي استوقفتني عدة أمور:
أولها: بلاغة القرآن الكريم في استخدامه للتعابير والمفردات التي تجعل كل من يمد يده ليأخذ منه، يجده جوادًا كريمًا لا يضن على قاصده ولا يبخل.
فالفقيه ينهل من معينه، والعلماء الطبيعيون يضعون نظرياتهم من خلاله حتى من لا يؤمنون به عندما يمعنون النظر فيه يشهدون بإعجازه، والفلاسفة الإسلاميون وعلماء الكلام، وقد لا أكون مبالغًا إن قلت جميعهم حاولوا إثبات عدم تعارضه مع معطيات العقل، وشاهدي على ذلك ابن تيمية الذي ألَّف كتابًا في هذا الشأن عنوانه: درء تعارض العقل مع النقل.
ثانيها: هذا الاستيقاف جعلني أطلق العنان لعقلي لتدبر هذه الآية ومحاولة إسقاطها على واقعنا المعاصر الذي نحياه، لعلني أجد ضالتي المنشودة وأصل من خلال هداية الله وتوفيقه بما يفيضه علينا من خيرات توفيق حدسية، ويُفِيض علينا بسبل نجاة تخلصنا مما نحن فيه.
وتنقلنا من وهم المحدثات الماديات إلى حقيقة الحقائق؛ وهي أن الدنيا لا تستحق كل هذا العناء وهذا النصب والشقاء، وأنها لا تستحق كل هذا الظلم الذي نظلمه لبعضنا بعضًا، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلم الاقتتال والتحارب والتطاحن؟! لِمَ صار الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان يتحين عليه الفُرص لينقض على ماله وبيته وحرماته؟!
لماذا كل هذه المكائد والضغائن لبعضنا بعضًا؟! أليس ثمة قاسم مشترك بيننا جميعًا؟! ألسنا جميعًا شركاء في الإنسانية، مع اختلاف ألواننا ولغاتنا ولهجاتنا؟! لكن أليس جميعنا يحمل صفة الإنسانية ونخضع لزمانية ومكانية واحدة مع اختلافات في الأمكنة والأزمنة؟! فلماذا كل هذا الكم الهائل من الطغيان؟!
لماذا يطغى القوي على الضعيف؟! هل لأن الله منحه بسطة في الجسم، والجسم هنا تعبير مجازي، لا أقصد به الجسم المفرد، وإنما مقصدي كل من يمتلك الآلات الفتاكة يستقوي بها على غيره ممن لا حول لهم ولا قوة اللهم إلا حجرًا أو بندقية أو حتى صاروخًا محلي الصنع يدافع به عن أرضه وعرضه.
فيتخذه القوي ذريعة لينهل عليه بوابل من الصواريخ والقنابل الفتاكة، ويهدم الدور فوق رؤوس قاطنيها، ويشرد الآمنين ويطردهم من بيوتهم محاولًا محو هويتهم وطمس معالمهم، أليسوا جميعًا شركاء في الإنسانية؟!
أم أن هؤلاء مختلفون في أجناسهم؟! وللأسف تجد من يكيل بمكيالين بازدواجية حمقاء، فينصف المعتدي المجرم القاتل؛ قائلًا إنهم يدافعون عن أنفسهم، وقتل الأطفال والشيوخ والعجائز ما قولكم عنه؟! وهنا تخرس الألسنة.
أي ظلم هذا، وأي طغيان هذا، وأي سلام هذا الذي يقوم على هذه الازدواجية في التعامل مع المنتج الواقعي -العدوان الصهيوأمريكي على غزة- أنموذجًا.
ثالثها: حيرتني بلاغة القرآن الكريم، عندما حاولت إيجاد تلازمية العلاقة بين قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)، وبين قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
وهنا يتوقف العقل، لا أقصد يتوقف عن التفكير، وإنما يتوقف أمام هاتين الآيتين محللًا، فيُسلّم تسليمًا يقينيًا بمحدودية كل العلوم وكل المتعلمين أمام علم الله تعالى، فالله علمه لا متناهٍ أمَّا كل علوم المتعلمين متناهية بما فيهم المخلوقات المفارقة للبشرية، أقصد الجن والملائكة.
مصداقًا لقوله تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)، حتى في هذه لا يمكن لأحد أن يعلم شيئًا إلا من خلال مشيئته وإرادته. هذه واحدة. أما الثانية: علم الله تعالى أنه سيظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، الذين هم الخلفاء لله تعالى في آية الاستخلاف، فهل خلفاء الله الذين استخلفهم مفسدون؟! وإذا كان الله تعالى عالمًا بفسادهم بعلمه للغيب الذي لا مراء ولا شك فيه، فلماذا استخلفهم؟!
أليس من المفروض أن الخلفاء أو الولاة يكونوا طائعين لمن استأمنهم على رعيته واستخلفهم عليها؟! وهنا على الفور يستحضر العقل حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليزيل هذا اللبس: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، لماذا؟ لأن المستخلَف إذا أدى حقوق الله كاملة للعباد المستخلَف عليهم فسيكون بذلك من الآمنين وقت السؤال.
وتتدخل الآية الكريمة لحل لغز الاستخلاف: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وقوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) أما الثالثة: الاعتبار من قوله تعالى: ليذيقهم بعض ما كسبوا، و"بعض" هنا للتبعيض أي جزءًا قليلًا مما اقترفته أيدينا من الموبقات والمفسدات التي تهلك الحرث والنسل.
فكل ما يقع في هذا الكون فهو بعلم الله تعالى، ولكن يحدث بأيدينا نحن، فنرى الحروب، نرى المنكرات في أبشع صورها، نرى حوادث القتل والنصب وهتك الأعراض والسرقات وحوادث الطرق، وكل ذلك بأيدينا، وإنه من أعمالنا.
* أستاذ الفلسفة بآداب حلوان