في عالم يزداد ترابطًا وتشابكًا، لم تعد التجارة الدولية مجرد تبادل للسلع والخدمات، بل أصبحت محورًا رئيسيًا في معادلة النمو والاستقرار الاقتصادي العالمي. ومع تنامي السياسات الحمائية التي تبنّتها بعض الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، بات من الضروري أن تتكتل الدول في أطر اقتصادية إقليمية ودولية لمواجهة تلك التحديات والدفاع عن مبدأ الانفتاح التجاري.
عودة الحمائية... تهديد لاقتصاد العولمة
أحيت إدارة ترامب خطابًا اقتصاديًا يعتمد على فكرة "أمريكا أولاً"، ما أدى إلى فرض رسوم جمركية عقابية على الواردات معظم دول العالم، لم تستثن صديق أو عدو. واعتبرت هذه الرسوم أداة لحماية الصناعة الوطنية الأمريكية، لكنها في الواقع أدت إلى تعطيل سلاسل الإمداد العالمية، وإثارة حروب تجارية أضرّت بالشركات والمستهلكين على حد سواء.
الحمائية ليست ظاهرة جديدة، لكنها تُعد انتكاسة خطيرة لجهود استمرت لعقود من أجل بناء نظام تجاري عالمي قائم على قواعد منظمة التجارة العالمية. وفي هذا السياق، برزت التكتلات التجارية كآلية دفاعية وهجومية في آن واحد لمواجهة هذه التحديات.
التكتلات التجارية... وحدة في مواجهة الانقسام
التكتل التجاري هو اتفاقية بين مجموعة من الدول لتسهيل التبادل التجاري والاستثماري فيما بينها عبر تخفيض الحواجز الجمركية وتوحيد القواعد والمعايير.
ومن أبرز هذه التكتلات: الاتحاد الأوروبي، اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا سابقًا)، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادي (CPTPP) ومجموعة بريكس.
تُعد هذه التكتلات أداة إستراتيجية لتعزيز القدرة التفاوضية الجماعية للدول الأعضاء، ووسيلة لحماية اقتصاداتها من الضغوط الأحادية والسياسات العقابية، كما توفر منصة لتنسيق المواقف التجارية ومشاركة الموارد والتكنولوجيا.
دور التكتلات في دعم التجارة الحرة
في ظل تنامي السياسات الانعزالية، أصبح التعاون الإقليمي والدولي ضرورة لا خيارًا. فالتكتلات التجارية تعزز تدفقات الاستثمار وتفتح أسواقًا جديدة، وتمنح الدول الصغيرة فرصة أكبر للمنافسة. كما أنها تساعد على تنويع الشركاء التجاريين، ما يقلل من الاعتماد المفرط على دولة واحدة أو سوق واحدة.
فعلى سبيل المثال، تمثل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، منتدىً للتعاون التجاري بين الدول، يضم 11 دولة، هي: أستراليا، بروناي، كندا، تشيلي، اليابان، ماليزيا، المكسيك، نيوزيلندا، بيرو، سنغافورة وفيتنام، والمملكة المتحدة التي انضمت مؤخرا.
المنطقة العربية في قلب التحولات
تحتاج الدول العربية، بما فيها مصر، إلى إعادة تفعيل التكتلات الاقتصادية القائمة مثل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وتطوير شراكاتها الإقليمية مع إفريقيا (كالكوميسا) وآسيا وأوروبا، لتعظيم فرصها في عالم يعاد تشكيله على أسس الكتل الاقتصادية الكبرى.
ففي عالم تتراجع فيه الهيمنة التجارية التقليدية، وتبرز فيه أقطاب جديدة، يصبح التعاون الإقليمي والتكامل الاقتصادي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
نحو نظام تجاري أكثر توازنًا
في مواجهة الحمائية والرسوم العقابية، لا تملك الدول خيارًا أفضل من بناء تكتلات اقتصادية قوية ومتعددة الأبعاد. فهذه التكتلات لا تقتصر على تحرير التجارة، بل تمثل منصات لحماية المصالح الاقتصادية والسيادية للدول الأعضاء، وتعزيز قدرتها على التأثير في النظام التجاري الدولي.
إن التحديات التي فرضتها السياسات التجارية المُربكة لترامب كانت جرس إنذار لنهاية مرحلة من الليبرالية الاقتصادية المطلقة، وبداية عصر جديد تقوم فيه التكتلات بدور المحرك والحامي للنمو الاقتصادي العالمي.