يبدو أن قانون الغاب بحذافيره هو الذي يحكم هذا العالم، فمن يمتلك القوة والسلاح يفرض سطوته ويدعم الانتهاكات ويُساندها ويبررها في حق الشعوب، دون أي اعتبار للقانون الدولي، ولا للأمم المتحدة، ولا لمجلس الأمن، ولا لمحكمة العدل، ولا لأي منظمة من المنظمات الدولية، سواء كانت سياسية أو إنسانية، إذ لا تمثل قيمة ذات تأثير يُذكر في هذه المعادلة.
تلك المنظمات التي تنتفض فقط أمام الدول الفقيرة وتطالب بمعاقبتها، لكنها تعجز عن تمرير مشروعٍ لوقف الانتهاكات أو الإبادة بحقها، طالما أن أمريكا، لسان حال الغرب، تعبث بكل طاقتها وبكل حيلة في الشرق، فتقرر إشعال الحروب أو إيقافها، وتستخدم حق النقض للحيلولة دون إيقاف الإبادة.
لقد رأينا كيف انتبهت عيون العالم، خلال أسبوعين متواصلين من المواجهات والاغتيالات والتدمير، إلى تلك الجولة من جولات الحرب بين الكيان المحتل وإيران، والتي لم تكن لتشتعل شرارتها لولا الضوء الأخضر والمباركة الأمريكية الترامبية.
تلك الجولة التي بدا في ظاهرها أنها انتهت، غير أن ما يبدو في الصورة لا يوحي بنهاية صراعٍ طويل بين الغرب الاستعماري ومنطقة الشرق الأوسط المنكوبة بتلك الأطماع، وإنما قد يكون فصلًا جديدًا يُغلق مؤقتًا لترتيب مواجهات مقبلة، بعد تقييم ما حدث وقراءة المشهد وفقًا للقدرات، والمضيّ قُدمًا في خطة تغيير ملامح المنطقة وإعادة رسم خريطتها.
وما قبل هذه الحرب القصيرة وما بعدها، بقي الحال في غزة وفي عموم الأراضي الفلسطينية على ما هو عليه: قتلٌ يومي على مدار الساعة، وهدم ودمار واستيطان وتجويع، ونصب المصائد للباحثين عن الدقيق من أجل لقمةٍ تسد جزءًا من جوع الأطفال، حتى صار الأمر اعتياديًا أن يوجّه جنود الاحتلال بنادقهم إلى صدور وظهور المدنيين العُزّل المتوجهين لاستلام المساعدات الإنسانية.
وليس ذلك فحسب، بل تجدهم يتباهون ويضحكون وهم يمارسون عمليات القتل بهذه الطريقة. ولمَ لا يتباهون ويمعنون في مزيدٍ من القتل والاغتيالات، وهم يعلمون أنه لا أحد سيحاسبهم أو حتى سيواجه هذا الظلم وهذا التجبّر، حتى إن وسائل الإعلام العبرية صرّحت بأن جيش الاحتلال قد أصدر أوامره العسكرية بإطلاق النار على منتظري المساعدات.
وخلال أيامٍ قليلة وصل إلى المستشفيات مئات الشهداء ومئات المصابين، ليُضافوا إلى قائمة شهداء المحارق والقذائف والقنابل والقصف، وجميع هذه الوسائل لم تتوقف في شمال غزة ووسطها وجنوبها، حتى بلغ عدد الشهداء نحو سبعة آلاف، والمصابين نحو واحدٍ وعشرين ألفًا منذ استئناف عدوان الاحتلال في الثامن عشر من مارس الماضي، ولترتفع حصيلة هذا العدوان إلى نحو ستين ألف شهيد ومئةٍ وأربعين ألف مصاب منذ السابع من أكتوبر 2023.
انتفض الغرب في وجه إيران التي وجّهت ضرباتٍ موجعة للكيان المحتل ردًّا على ضرباته واغتيالاته للقادة والعلماء والمنشآت النووية، وقال الغربيون: «لا نسمح بالمساس بأمن إسرائيل».
ولذلك، وببساطة متناهية، يرفض الاحتلال حتى الآن الدخول في أي اتفاقات أو تسويات تتعلق بقطاع غزة، متمسكًا بشروطه التي تهدف إلى تحقيق ما أسماه «النصر المطلق» من خلال القضاء الكامل على حماس أو ترحيلها وتسليم سلاحها والسيطرة على القطاع.
ويعتبر الاحتلال أن وقف إطلاق النار بشكل دائم يُمثّل هزيمةً عسكريةً وسياسيةً، فيتعنّت ويرفض إرسال وفودٍ للتفاوض، مع الإبقاء على العمليات العسكرية والتفكيك الممنهج للقطاع المنكوب بالفوضى والجوع والمرض والاستهداف المستمر.
وخلال الساعات الماضية، خرج ترامب متباهيًا باتفاق السلام الذي أُبرم بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، بعد تباهيه بتدمير قدرات إيران النووية، ومن نافلة القول ذِكر أن هناك اتفاقًا مرتقبًا لوقف إطلاق النار في غزة، ومفاوضاتٍ ستُجرى مع الحركة لإطلاق سراح الرهائن لديها.
وعلى الرغم من وجود أصواتٍ في الداخل الإسرائيلي تطالب بإنهاء هذه الحرب التي بلغت شهرها الحادي والعشرين، فإن ما يحدث على أرض الواقع لا يُبشّر بأي خطوةٍ في هذا الاتجاه، مع تصاعد وتيرة الحرب والقتل الممنهج، بل وتصريحات ترامب نفسه الذي علّق على خضوع مجرم الحرب نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، للمحاكمة بتهم الفساد، بأن الولايات المتحدة تنفق المليارات لحماية الكيان المحتل، ولن تسمح بتشويه ذلك مع نتنياهو، مدّعيًا أن الأخير بصدد التفاوض على صفقةٍ مع حماس لإعادة المحتجزين، وأنه من الجنون إجباره على المثول أمام المحكمة، معتبرًا أن ما يحدث له مطاردةٌ سياسية تُشبه ما تعرّض له ترامب نفسه.
ووفقًا لكل ذلك، ومع هذا الاعتراف الواضح بحماية الكيان المحتل بمليارات الدولارات التي تتضمن، بطبيعة الحال، دعمًا مستمرًّا بالسلاح وحمايةً لمجرم الحرب، واللجوء الدائم لحق الفيتو، فمن المؤسف ألا نرى بارقةَ أملٍ في إنقاذ الفلسطينيين من هذا الطاعون، أو تحقيق حلم دولتهم المستقلة التي طالما نادت بها مصر وشرفاء العالم لإرساء السلام في الشرق الأوسط.
أما المجتمع الدولي العاجز والخاضع لحسابات المصالح، فيترك النكبة مستمرةً والحرب الضارية غير العادلة مستعرةً دون أن تجد طاولة مفاوضاتٍ تملك سلاحًا رادعًا يوقف المجازر والانتهاكات اليومية التي يمارسها الاحتلال المدعوم بلا قيودٍ أو شروط.