كان الكاتب الكبير وحيد حامد يتعامل مع فكرة العمر وتقدمه بشكل مختلف عما يفكر به الآخرون، وفي آخر حوار انفردت به «بوابة الأهرام» قبل رحيله بشهرين فقط ضمن ملف وثق لرحلته وتجربته الفنية والأدبية الطويلة، تحدث معي الراحل عن نظرته لفكرة العمر وتقدمها وكيف يمكن أن تكون متحكمة في تقييد الآخرين في تجاربهم الحياتية.
موضوعات مقترحة
كان الحوار بيني وبين الأستاذ وحيد حامد الذي تحل ذكرى ميلاده اليوم «١ يوليو» «محاولة لإلتقاط الأنفاس» بين عدة ساعات قضينها سويًا لتوثيق هذه الرحلة، جلسة كانت الآلام الرحلة الأخيرة والتعب البدني تحاوط وجهه الطفولي «البشوش»، الآلام التي كان يتغلب عليها بالورقة والقلم والمكوث في مكانه المفضل بالفندق الشهير المطل على النيل.
هنا في منتصف الجلسة، كان الراحل يتحدث معي عن فكرة الارتباط والزواج من منظور رؤيتي كفتاة ثلاثنية، وأسرد لي كثير من حكايات الفتايات والأمهات في هذا الأمر، وبتجربة الكاتب المخضرم الذي لطالما استشرف المستقبل وأحداثه في أعماله التي سبقت وقوع كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية ، شعر من خلال حديثي أنني أتحدث طوال الوقت بلغة «المهوم الذي يشعر أن العمر مر سريعًا دون أن يستمتع به »، فكلما كنت أتحدث كانت على لساني هذه العبارة: «خلاص بقى يا أستاذ وحيد راحت علينا كبرنا».
في تلك اللحظة، قاطعني متسائلًا: كم عمرك الآن؟، كنت حينها في منتصف الثلاثنيات، هنا كانت البوصلة في إجابته التي فهمت منها كيف نجح في تجاوز مسألة الزمن والانخراط في شرائح عمرية مختلفة متجددة بين حقب زمنية مختلفة وضع نفسه بها، مكنته من التعبير عنها بصدق شديد.
أجابني الأستاذ قائلًا: «أنتي الآن في عمر الخامسة عشر» سألته متعجبة كيف؟، فقال لي لأن تجربة الحياة الحقيقية تبدأ بعد انتهاء الدراسة الجامعية أي في عمر العشرين، أما ما سبق فما هو إلا مسار مفروض على أي إنسان أن يعيشه يمر فيه بمرحلة الطفولة والمراهقة ويلتزم بتعليمات الأهل والأمور الدراسية وآخرى، لذلك فإن الرحلة تبدأ من حيث انتهت وليس كما يعتقد البعض أن العمر تقدم به ومر سريعًا لمجرد أنه أنهى دراسته أو مرت سنوات عمره سريعًا .
كيف تجاوز وحيد حامد فكرة الزمن في أعماله؟
لم أفهم حديث الكاتب الراحل جيدًا إلا بعد العودة والتحليق في تجربته التي تجاوز فيها فكرة الزمن، وهو ما كان يجعل قلمه دائمًا متجددًا؛ لأنه خلق لروحه بيئة خاصة أهلته للاستمرارية من هذا المنطلق حتى اللحظات الأخيرة من رحلته، فما كان أن يتم الإعلان عن مشروع جديد يكتبه الراحل إلا وينتظره الشباب قبل الكبار، ما جعله دائمًا في صدارة المشهد عن غيره من الكتاب الذين وصلوا لنفس مرحلته العمرية وتوقفت مسيرتهم نظرًا لأنهم لم يتمكنوا من تجاوز فكرة الزمن ومخاطبة الواقع بمتغيراته الجديدة على مختلف المستويات.
الألفية الجديدة في عيون وحيد حامد
مر المجتمع المصري بالعديد من التغيرات منذ الألفية الجديدة التي انعكست على كثير من الأمور الحياتية، وهنا أدرك الكاتب الكبير أهمية تجاوز فكرة الزمن حتى ينجح في الوصول لمزاجية الجمهور الجديد، تحديدًا قطاع الشباب الذي كان يمر بين أفكاره عبر مراحل زمنية مختلفة بين التوثيق المجتمعي كما قدم في واحدًا من أهم أعماله «بدون ذكر أسماء» أو التأريخ كما في مسلسل «الجماعة» بجزأيه الأول والثاني والذي شاء القدر برحيله قبل انتهاء كتابته الجزء الثالث.
في ذلك العملين تحديدًا، قدم الراحل معالجة يستطيع الشباب من خلالها قراءة الزمن وتغيراته، اختار في «بدون ذكر أسماء» تقديم نموذج الشاب الانتهزاي ورجل الدين المدعي وابنة الشارع الذين صعدوا إلى القمة في مرحلة الثمانيات التي تغير فيها المجتمع المصري كاملًا، وبرغم أن الراحل كان قد تجاوز الستين من عمره عندما قدم هذا العمل لكنه أستعاد رحلته في تلك المرحلة الزمنية ليسرد تفاصيلها النفسية والعاطفية والمادية بعناية شديدة.
الأمر ذاته حدث في مسلسل «الجماعة» الذي مزج فيه بين رحلة التوثيق والقراءة لتاريخ تأسيس جماعة الإخوان الإرهابية، في رؤية وضع عقله فيها في تركيبة هذا الزمن حتى يستطيع أن يخرج بسياق درامي مزج فيه بين الماضي والحاضر كما ظهر في الجزء الأول.
مخاطبة النفس البشرية
القلم عند وحيد حامد لا يتجاوز فكرة تقدم العمر فقط، لكنه يخاطب النفس البشرية بنعومة شديدة، ولعل واحدة من أكثر التجارب التي قدمها الراحل وحققت نجاحًا كبيرًا وقت عرضها في مطلع الألفية الجديدة مسلسل «أوان الورد» الذي قدم خلاله قصة رجل وامرأة تجاوزا عمر الثلاثين ويخوضون تجربة الزواج والإنجاب لطفل يتم اختطافه وتبدأ رحلة البحث عنه.
هنا في تلك التجربة، ذهب حامد لمشاعر العاطفة والأمومة التي تحاصر امرأة ثلاثينية تقاتل من أجل استرداد ابنها، ووضعه نفسه في تلك المرحلة العمرية ومشاعر المرأة التي وجدت ضالتها في هذا الطفل لتبدأ معه رحلة عمرية جديدة في الحياة.
يتجدد عمر وحيد حامد في كل تجربة يقدمها بين الحين والآخر، فأعماله التي قدمها في الألفية الجديدة عرف من خلالها كيف يخاطب جمهوره من الشباب بأعمال تجذب مزاجيته، وتخاطب واقعه المرتبك كما في أعمال مثل «احكي ياشهرزاد»، «محامي خلع»، «دم الغزال»، «ديل السمكة» وغيرها من الكثير في إبداعات الكاتب الراحل التي تجاوز فيها تقدم عمره وتعامل بمنطق التجربة الحياتية لأعمار شخصياته التزامًا بمنهجه في الحياة الذي جعله يشعر من داخله أن العمر مازال أمامه الكثير لتقديمه.
الكاتب الكبير الراحل وحيد حامد خلال حواره الأخير مع بوابة الأهرام قبيل رحيله