"عرايس الجنة.. حينما تُدهس الأحلام على قارعة الطريق"

29-6-2025 | 17:20

كانت كل واحدة منهن زهرة في ربيع العمر، تحمل حلمًا بسيطًا بين يديها: أن تساعد أسرتها، أن تشتري حاجاتها، أن تعود من عملها في آخر اليوم بابتسامة، وربما ببضعة جنيهات تعني لأسرتها الكثير. 

خرجن فجرًا من قريتهن الصغيرة بمحافظة المنوفية، وهن لا يحملن سوى الرغبة في العمل الشريف. لم يكن في بالهن أن تلك الرحلة ستتحول إلى ذكرى، وأن بيوتهن ستُضيء بنور الشموع بدلًا من بهجة اللقاء. 

في صباح الجمعة 27 يونيو 2025، خيم الحزن على ربوع مصر. لم يكن يومًا عاديًا، بل كان بداية جرح وطني في قلوب الأمهات، والآباء، وكل من تابع الحادث المؤلم الذي وقع على الطريق الإقليمي.

كانت سيارة ميكروباص تقل فتيات وشبابًا في طريقهم إلى عملهم، حين وقع الحادث الذي راح ضحيته 19 فتاة في عمر الزهور. حادث أدمى القلوب، وهز المشاعر، وترك وراءه تساؤلات وحزنًا لا يوصف. 

قد يبدو أن الألم ينحصر في الأرقام أو الأخبار العاجلة، لكنه أعمق من ذلك بكثير. وجع الفقد لا يقاس بالعدد، بل بما تركه في قلوب الأمهات، وصمت الآباء، وعيون الأشقاء الصغار، وأحلام لم تكتمل. 

هناك غرف لن تُفتح بعد اليوم، وكتب لن تُقرأ، وضحكات ستبقى معلقة في الذاكرة. في تلك اللحظة، لم تبك قرية كفر السنابسة وحدها، بل بكتها مصر كلها. كل بيت شعر بالفقد، كل أم احتضنت ابنتها بشدة، كل معلم استرجع وجوه تلميذاته، كل مجتمع شعر أن هؤلاء الفتيات لسن مجرد أسماء في نشرة أخبار، بل بناتنا جميعًا. 

كمجتمع، نحن بحاجة في مثل هذه اللحظات إلى أن نحتضن بعضنا، أن نعيد النظر في علاقتنا بقيمة الحياة، وأهمية الدعم الإنساني والمعنوي. الحزن لا يُمحى، لكنه يمكن أن يتحول إلى دافع للمحبة، للتكافل، للوعي، لمساندة الأسر التي فقدت فلذات أكبادها، وإعادة بناء الثقة والأمان المجتمعي. لطالما نظرت إلى طالباتي بعين الأم والمعلمة. أرى في أعينهن الطموح، البراءة، والسعي الجميل نحو المستقبل. أسمع أحلامهن عن العمل، التعليم، مساعدة الأهل، والاستقلال. 

هن عصب المجتمع، ونبضه، وهن أيضًا الأكثر احتياجًا لبيئة آمنة وداعمة. في كل وجه منهن، حكاية حلم لم تكتمل. لكن ما لمس قلوبنا جميعًا هو حجم التضامن الذي عبرت عنه الناس في كل مكان. مشاهد الجنازات الجماعية تحولت إلى صلاة وطنية، ورأينا كيف التفت القرى والبلدات حول أسر الضحايا، وامتدت الأيادي بالدعاء، والتعزية، والمواساة. 

ظهر الوجه الأصيل للمجتمع المصري، حين تكون المحنة مشتركة، ويكون الحزن سببًا للتراحم. هؤلاء الفتيات لم يكن مجرد عاملات أو طالبات، بل كن في طريقهن ليصبحن أمهات، مربيات، صانعات مستقبل. كان يمكن لكل واحدة منهن أن تكون أستاذة جامعية، طبيبة، مهندسة، مبدعة، أو ببساطة امرأة مكافحة تزرع الخير في محيطها. ولذلك، فإن خسارتهن ليست فقط شخصية أو أسرية، بل مجتمعية. 

في ثقافتنا المصرية، حين نودع فتاة صغيرة، لا نودع شخصًا فقط، بل نودع حلمًا، ونغلق بابًا من أبواب الأمل. ولذلك، فإن من واجبنا كمجتمع أن نستوعب الدرس، لا من باب الانتقاد أو التأنيب، بل من باب الرحمة والحكمة. 

علينا أن نعزز ثقافة السلامة، أن نتحدث عن قيم الحياة، أن نربي أبناءنا وبناتنا على الوعي والاحترام، وأن نحول مثل هذه الحوادث إلى لحظات بناء. إن دعم أسر الفتيات لا يقتصر على المساعدات المادية، بل يتعداها إلى الدعم النفسي، والاحتواء المجتمعي، واستمرار ذكرى الفتيات كرمز للجد والاجتهاد والطيبة. 

إن تخليد أسمائهن في أنشطة مجتمعية أو منح دراسية أو مشاريع توعوية قد يكون أقل ما يمكن تقديمه لتبقى أرواحهن حاضرة بيننا، لا ذكرى تبكيها الأمهات فقط. الفتاة المصرية كانت ولا تزال رمزًا للعطاء والتحدي. تعمل، تدرس، تتحمل، وتبني. وهي تحتاج دومًا إلى عين تراها، وأذن تسمعها، وقلب يحتضنها. وحين نفقد مجموعة من بناتنا بهذا الشكل المفجع، فإن مسئوليتنا جميعًا أن نعيد النظر في أولوياتنا، لا بنقد أو اتهام، بل بحب واهتمام. 

لن ننسى آية، هاجر، مروة، فاطمة، ولا أيًا من عرائس الجنة. فهن لم يرحلن عبثًا، ولم ينطفئن في صمت. لقد أشعلن فينا شمعة وعي، ونبهتنا إلى هشاشة الحياة، وإلى قيمة كل دقيقة نقضيها مع أحبائنا. قد لا نملك تغيير ما حدث، لكن نملك أن نغير الطريقة التي نرى بها الحياة بعده. نملك أن نزرع في أطفالنا قيم الأمان والاحترام، وأن نعيد إلى المجتمع دفء العلاقات، وحس المسئولية تجاه بعضنا. 

رحم الله بناتنا، وربط على قلوب ذويهن، وكتب لهن مقامًا في الفردوس الأعلى. ولنحمل نحن من بعدهن الرسالة: أن كل زهرة تفقد على الطريق، يجب أن تنبت بدلًا منها مئات الزهور، في مدارسنا، وجامعاتنا، وبيوتنا، وقيمنا.

* أستاذ علم الاجتماع الثقافي – كلية الآداب – جامعة طنطا

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: