سواء عن قصد أو بدونه، تعمد الرئيس دونالد ترامب أن ينكأ الجراح الغائرة في نفوس الأصدقاء اليابانيين، وهم يعكفون في هذه الأيام على إحياء الذكرى الثمانين "المشئومة" لقصف هيروشيما وناجازاكي بقنبلتين ذريتين، لأول مرة في التاريخ. في تصريحات وصفها دبلوماسي مصري (د.محمد مرسي) بأنها لا تصدر إلا عن عقلية مريضة -سيكوباتية- واهمة، ربط ترامب بفداحة الغارات الأمريكية على المواقع النووية الإيرانية، وبين استخدام بلاده القنابل الذرية على المدينتين اليابانيتين الآمنتين، قائلاً: "لا أريد أن أذكر هيروشيما، ولا ناجازاكي، لكنهما -فعلياً- أنهتا الحرب العالمية والضربات الأخيرة أنهت الحرب بين إيران وإسرائيل".
في أوائل شهر أغسطس من عام 1945 وخلال الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، ألقت قاذفات حربية أمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، لتصبح الولايات المتحدة -حتى الآن- هي الدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية في زمن الحرب، وتظل اليابان هي الدولة الوحيدة المنكوبة بها.
وقتها، بلغ عدد قتلى القصف الذري في هيروشيما 80 ألفاً، و74 ألفاً في ناجازاكي، وهي أرقام تتقارب مع عدد الشهداء والأبرياء، في حرب الإبادة الجماعية -الصهيونية- القذرة، التي يتعرض لها الأشقاء الفلسطينيون منذ عامين.
أما إجمالي خسائر اليابان من الأرواح في الحرب العالمية الثانية فقد تجاوز 3.1 مليون قتيل، منهم 2.3 مليون من العسكريين. في الوقت نفسه، بلغ العدد العالمي الإجمالي للخسائر في الأرواح في تلك الحرب 70 مليوناً (مقارنة بـ 44 مليوناً فقط بالحرب الأولى) منهم نحو 15- 20 مليون قتيل بالصين وجنوب شرق آسيا.
في عام 1967، أعلنت الحكومة اليابانية عن التزامها بسياسة عدم امتلاك الأسلحة النووية، أو إنتاجها، أو السماح بإدخالها، واستمرت طوكيو في تبني هذه المبادئ الثلاثة غير النووية، لكن التحالف بين واشنطن وطوكيو يضع الأخيرة تحت حماية الردع النووي الأمريكي الموسع، أو ما يسمى بالمظلة النووية الأمريكية، بعبارة أخرى، فإن العلاقة الأمنية الثنائية بين البلدين هي في جوهرها تحالف نووي، بالتالي يكون التوفيق بين هذين الواقعين عملاً يتطلب دقة متناهية لتحقيق هذا التوازن، وفقاً للباحث الأكاديمي بجامعة هيروشيما اليابانية، توشيبا أوميهارا.
تعليقاً على تصريحات ترامب التي قارب فيها بين الضربات الأمريكية ضد المواقع النووية والقصف الذري على هيروشيما وناجازاكي عام 1945، قال المتحدث الرسمي الياباني، هاياشي يوشيماسا: "إن القصف الذري على المدنيين اليابانيين أودى بحياة الكثيرين، وتسبب في معاناة لا توصف وأسوأ الأزمات الإنسانية".
أضاف قائلاً: "إن استخدام الأسلحة النووية ذات القوة التدميرية الهائلة يتعارض مع روح الإنسانية، التي تشكل الأساس الأيديولوجي للقانون الدولي". وردًا على سؤال عما إذا كانت طوكيو تنوي تقديم احتجاج لواشنطن، ذكر هاياشي أن اليابان لطالما نقلت -بشكل متكرر- أفكارها الأساسية بشأن القصف الذري للولايات المتحدة.
على الصعيد الشعبي، رد عمدة ناجازاكي، سوزوكي شيرو، على تصريحات ترامب الاستفزازية قائلاً: "إن استخدام الأسلحة النووية أمر غير مقبول تحت أي ظرف من الظروف، في ضوء ما تعرضت له المدينة من عواقب مأساوية وغير إنسانية".
أضاف العمدة شيرو أنه لا يفهم ما يعنيه ترامب في تعليقاته، التي إذا كانت تهدف إلى تبرير إلقاء القنبلتين الذريتين، فإن ناجازاكي ستعبر عن أسفها العميق، باعتبارها واحدة من المدينتين المنكوبتين اللتين تعرضتا للقصف الذري الأمريكي.
في مدينة هيروشيما، عبر الناجون اليابانيون من القنبلة الذرية (الهيباكوشا) عن غضبهم من مقارنة ترامب، ونظموا مسيرة احتجاجية، وطالبوه بالاعتذار؛ لأن القصف يعتبر مأساة إنسانية لا يمكن تبريرها تحت أي ذريعة سياسية أو عسكرية.
أيضاً وباسم الهيباكوشا، عبر رئيس منظمة نيهون هيدانكيو الممثلة للناجين من القنبلتين الذريتين، ميماكي توشييوكي، عن غضبه تجاه ترامب، وتساءل: "ماذا يقصد الرئيس ترامب من وراء تصريحاته الاستفزازية غير المقبولة له ولليابانيين، ممن فقدوا الكثير من أحبائهم وكافحوا من أجل إعادة بناء وطنهم الياباني المدمر".
هنا أعود إلى سرد عدد من المظاهر الجارية في اليابان -حاليا- لإحياء الذكرى الثمانين المؤلمة نتيجة للحرب العالمية الثانية، وتزامنها مع تذكير ترامب بها.
للمرة الأولى منذ 30 سنة، تقوم الحكومة اليابانية بجمع شهادات من حوالي 106 آلاف من الناجين، معربة عن أملها في تلقي أكبر عدد ممكن من الشهادات وسط تقدم عمر الناجين من القصف الذري، كانت جهود جمع الشهادات قد بدأت في عام 1995، وكان عدد الهيباكوشا يبلغ -وقتها- حوالي 320 ألف ناج.
أيضًا، تعتزم طوكيو تصنيف قبة القنبلة الذرية في هيروشيما كموقع تاريخي، يتمتع بقيمة عالية، وهذا أول تصنيف من نوعه لهيكل تم بناؤه بعد بدء فترة مييجي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشيّد الهيكل المبني من الطوب عام 1915، وكان يعرف بقاعة الترويج الصناعي لمحافظة هيروشيما، ويبعد حوالي 160 مترًا فقط عن مركز انفجار القنبلة الذرية، ونجا هيكل قبة المبنى بأعجوبة من القصف.
قام مسئولون في مدينة هيروشيما بتعريض سجل يضم أسماء ضحايا القصف الذري الأمريكي للهواء، وتحمل القائمة أسماء وتواريخ 344306 أشخاص تعرضوا للإشعاع وتوفوا حتى يوم 5 أغسطس من العام الماضي.
في الوقت نفسه، تم عرض قوائم ضحايا القصف الذري الأمريكي على ناجازاكي، ويحتوي السجل على أسماء الضحايا وتواريخ وفاتهم وأعمارهم، وجرى إضافة 3208 ضحايا آخرين إلى القوائم، ليصل إجمالي عدد الوفيات إلى حوالي 198890 متوفيًا نتيجة للقصف.
وقام طلاب المدارس بالمدينة بأعمال فنية تسرد روايات الهيباكوشا لحفظ ذكرياتهم المؤلمة للأجيال المقبلة.
أخيرًا، أحيا سكان محافظة أوكيناوا في يوم 23 يونيو الحالي ذكرى مرور 80 عامًا على انتهاء معركة أوكيناوا، وقد أودت حملة القتال البري، خلال الحرب العالمية الثانية، بحياة نحو 200 ألف شخص، بسلسلة الجزر الواقعة أقصى جنوب اليابان.
[email protected]