لم يعد الهوس بالذكاء الاصطناعي كافيًا لإبهار الجميع، فبينما تتسابق الشركات الكبرى نحو تبني أدوات الذكاء التوليدي، تتعاظم موجة الرفض والغضب بين المستخدمين والعاملين وحتى بعض المراقبين، ما كان يُنظر إليه قبل عامين على أنه ثورة تقنية واعدة أصبح اليوم مادة للسخرية، ومصدرًا للقلق، بل ودافعًا مباشرًا لحملات غضب وانتقادات حادة.
موضوعات مقترحة
المثال الأحدث على هذا التحول جاء من شركة "Duolingo" الشهيرة لتعليم اللغات، والتي قررت في مايو الماضي التحول إلى "شركة تضع الذكاء الاصطناعي في مقدمة أولوياتها"، القرار كان يعني عمليًا تقليص الاعتماد على الموظفين المتعاقدين واستبدالهم بالأدوات الآلية، ورد الفعل كان صادمًا: مستخدمون غاضبون حذفوا التطبيق، وتنازلوا عن إنجازاتهم اليومية، احتجاجًا على ما رأوه "تخلّيًا عن الإنسان لصالح الآلة".
رفض عام يزداد اتساعًا.. وعي جديد بمخاطر الأتمتة
لم تكن "Duolingo" وحدها، بل سارت على نهجها شركات مثل "Klarna" و"Salesforce"، حيث أعلن مسؤولوها أن الذكاء الاصطناعي سيسهم في تقليل الحاجة لتوظيف العاملين في مجالات مثل خدمة العملاء والهندسة. وفي الوقت نفسه، كان المطورون يروجون لوكلاء رقميين مستقلين يمكنهم إنجاز مهام برمجية كاملة دون تدخل بشري.
لكن هذه الاندفاعة لم تمر دون تبعات. فمع ازدياد الحديث عن استبدال البشر، بدأت النبرة العامة تميل نحو التشكيك والنفور. هناك مخاوف حقيقية من ضياع فرص العمل، ومن التأثير البيئي لمراكز البيانات العملاقة، ومن التلاعب بالمحتوى الفني والأدبي عبر تدريب الخوارزميات على أعمال أبدعها بشر دون إذنهم أو مقابل.
من الإعجاب إلى الغضب.. كيف تغيرت مشاعر المستخدمين؟
عندما ظهر ChatGPT أواخر عام 2022، انبهر كثيرون من قدرته على الكتابة والرسم والابتكار، لكن سرعان ما بدأت المجتمعات الإبداعية تطلق أجراس الإنذار، خاصةً بعد أن تبيّن أن برامج الذكاء الاصطناعي تعتمد في تدريبها على أعمال فنية وأدبية حقيقية دون إذن أصحابها.
ذروة هذا الرفض ظهرت خلال إضراب كتاب هوليوود عام 2023، وامتدت إلى موجة من القضايا القانونية التي رفعتها دور النشر والمبدعون ضد شركات التقنية. واليوم، أصبح شعور العداء التلقائي تجاه الذكاء الاصطناعي أكثر شيوعًا وانتشارًا.
الذكاء الاصطناعي في كل مكان.. والمستخدمون يتصيدونه
من يطالع تعليقات مستخدمي "لينكد إن" أو "يوتيوب شورتس" أو "إنستجرام" سيلاحظ ظاهرة طريفة: كلما لاحظ أحدهم أن المحتوى تم إنشاؤه بالذكاء الاصطناعي، يرد بسخرية أو استهجان. حتى التدوينات النصية التي تحوي علامات مثل الفواصل الطويلة أصبحت محل شك واتهام بأنها صادرة عن خوارزمية.
وفي حالات كثيرة، يكفي الاشتباه في استخدام الذكاء الاصطناعي لتشويه سمعة المنشور أو الحساب. مثال على ذلك ما حدث مع "Duolingo"، حيث اضطرت الشركة لإخفاء مقاطع الفيديو من حساباتها لفترة، قبل أن تعود بفيديو ساخر يصور التمرد على الرأسمالية والتقنيات الجديدة. لكن حتى هذا لم يكن كافيًا لإسكات الانتقادات.
الغضب لم يعد افتراضيًا فقط.. المجتمعات تنتفض على الأرض
في كثير من المجتمعات، خاصة الريفية والمهمشة، تجاوز الغضب مرحلة الإنترنت. ففي مدينة "ممفيس" بولاية تينيسي، اندلعت احتجاجات ضد بناء مركز بيانات ضخم تابع لشركة xAI المملوكة لإيلون ماسك، بسبب استخدامه لأكثر من 30 مولدًا يعمل بالميثان ويتسبب في تلوث الهواء والمياه.
الناشطة "أليكس هانا"، الباحثة في معهد أبحاث الذكاء الاصطناعي الموزع، تؤكد أن سكان هذه المناطق لم يكتفوا بالنقاشات الرقمية، بل نظموا حملات شعبية لحماية بيئتهم من التلوث الناتج عن خوادم الذكاء الاصطناعي. فبينما يحصد الأغنياء أرباح التقنيات، يتحمل الفقراء أضرارها.
جيل جديد من العمال يعيد تنظيم الصفوف.. الذكاء الاصطناعي يهدد الوظائف
يؤكد الكاتب "برايان ميرشانت"، مؤلف كتاب "الدم في الآلة", أن العمال باتوا أكثر وعيًا مما يتصور البعض، ويدركون جيدًا أن هدف شركات التقنية من الذكاء الاصطناعي هو تقليل الاعتماد على البشر، وليس تحسين حياتهم. ومع زيادة التهديدات، يتوقع أن تتحول احتجاجات الإنترنت إلى حركات شعبية على الأرض، شبيهة بما حدث في الماضي عندما انتفض العمال ضد الآلات التي هددت وظائفهم.
مستقبل الذكاء الاصطناعي.. لصالح من؟
الفرق الجوهري بين ظهور الإنترنت وثورة الذكاء الاصطناعي يتمثل في أن الأولى منحت القوة للناس، بينما الثانية تبدو وكأنها تسحبها منهم. تقول الفيلسوفة "شانون فالور" إن منظومة الابتكار في القرن العشرين كانت تهدف إلى تمكين الإنسان، أما اليوم فهي تصب في مصلحة من يملكون النفوذ بالفعل.
وإذا استمرت هذه الموجة دون ضوابط أخلاقية، فقد نشهد مرحلة تصبح فيها فوائد الذكاء الاصطناعي حكرًا على القلة، بينما يتحمل الغالبية تكلفة فقدان الوظائف، وتدهور الصحة النفسية، وتلوث البيئة، وتآكل الإبداع الإنساني.
ما يحدث الآن ليس رفضًا للتكنولوجيا، بل رفضًا لغياب العدالة
الغضب من الذكاء الاصطناعي لا يعني معاداة التطور، بل هو تعبير صادق عن رفض نموذج استغلالي لا يراعي البشر ولا المجتمعات. وإذا لم تتغير قواعد اللعبة، فإن ما بدأ كتمرد رقمي قد يتحول قريبًا إلى حركة جماهيرية حقيقية، تطالب باستعادة الكلمة الأخيرة من يد الخوارزميات إلى يد الإنسان.