لم تكن "روزي" وزوجها يتخيلان أن رحلتهما الطويلة والمؤلمة التي امتدت لـ 19 عامًا بين عيادات الخصوبة وفحوصات الأمل المنكسر، ستنتهي ذات يوم باتصال هاتف يحمل الخبر الذي انتظراه لعقود: "أنتِ حامل"، حلم الإنجاب الذي بدا مستحيلًا بعد 15 محاولة فاشلة للتلقيح الصناعي أصبح حقيقة بفضل تقنية لم تكن موجودة من قبل، ليس دواءً جديدًا ولا جراحة معقدة، بل اختراق علمي باستخدام الذكاء الاصطناعي.
موضوعات مقترحة
ثورة في تشخيص العقم الذكوري: مشكلة مهملة منذ عقود
رغم أن نحو 40% من حالات العقم ترتبط بمشكلات لدى الرجل، ظلت الرعاية الإنجابية تركز تقليديًا على المرأة. إحدى أكثر الحالات تعقيدًا تُعرف باسم انعدام الحيوانات المنوية (Azoospermia)، حيث لا تظهر أي حيوانات منوية في السائل المنوي خلال الفحص. حتى باستخدام المجاهر المتقدمة، يمكن أن تمر بعض الحالات دون تشخيص دقيق، لتبقى الخيارات محدودة: إما الجراحة أو استخدام حيوانات منوية من متبرع، وهو خيار لا يناسب الجميع لأسباب دينية أو ثقافية أو شخصية.
غياب الحلول الحقيقية لهذه الفئة من الأزواج كان دافعًا لفريق علمي بقيادة الدكتور "زيف ويليامز" من مركز الخصوبة بجامعة كولومبيا، لتطوير نظام فريد يعتمد على الذكاء الاصطناعي تحت اسم STAR، أي "تتبع واسترجاع الحيوانات المنوية"، ليقدم تحولًا غير مسبوق في التعامل مع هذا النوع من العقم.
كيف يعمل نظام STAR؟ العين البشرية لم تعد وحدها في الميدان
تعتمد التقنية الجديدة على دمج الذكاء الاصطناعي بشريحة ميكروفلويدية (microfluidic chip) لفحص ملايين الصور المجهرية وتحليلها بسرعة خارقة لاكتشاف حتى أندر الخلايا المنوية التي قد لا يراها الإنسان مهما دقّق النظر.
عند العثور على هذه الخلايا، يقوم النظام بعزلها بلطف شديد بحيث تظل صالحة للاستخدام في عمليات التلقيح الصناعي. وتمامًا كما تستخدم وكالات الفضاء الذكاء الاصطناعي لاكتشاف نجوم وسط ضجيج الكون، يوظف STAR هذا المفهوم داخل "كون بيولوجي"، فيكشف الخلايا المنوية وسط الفوضى المجهرية.
في أحد الاختبارات، قضى فريق من الأخصائيين يومين في محاولة العثور على خلايا منوية في عينة معينة دون جدوى، بينما تمكن STAR من رصد 44 حيوانًا منويًا في أقل من ساعة واحدة، مما أتاح استخدامها في عملية التلقيح وفتح بابًا كان مغلقًا تمامًا أمام ذلك الزوج.
رحلة روزي: من 15 محاولة فاشلة إلى اختبار حمل إيجابي
بعد سنوات من المعاناة والخيبات، وعشرات اللقاءات الطبية المؤلمة، أبلغ الأطباء "روزي" وزوجها بأن حالتهم ليس لها حل سوى استخدام حيوانات منوية من متبرع، وهو خيار لم يكونا مستعدين لتقبله.
لكن حين سمعت روزي عبر مجموعة دعم اجتماعي عن تقنية STAR، تواصلت مع فريق الدكتور ويليامز، وقررت خوض محاولة أخيرة باستخدام هذه التقنية الثورية. لم تكن هناك أدوية ولا مواد كيميائية، فقط جهاز ذكي يبحث بصمت عن أمل صغير.
نجحت التقنية في العثور على عدد كافٍ من الخلايا المنوية لتلقيح بويضاتها. وبعد أيام فقط، جاء الخبر المنتظر: روزي حامل أخيرًا. الآن، وبعد مرور أربعة أشهر من الحمل، لا تزال روزي تستيقظ يوميًا وكأنها لا تصدق، لكن الأشعة حقيقية، ونبض الجنين حقيقي، وحلمها تحقق.
ماذا يعني STAR لمستقبل طب الخصوبة؟
نجاح تقنية STAR لا يمثل فقط إنجازًا في الذكاء الاصطناعي، بل هو إعلان عن بداية عصر جديد في علاج العقم الذكوري، حيث يمكن:
تسريع ودقة الكشف عن الحيوانات المنوية: النظام يفحص ملايين الإطارات في الساعة ويعزل الصالح منها في الوقت الحقيقي.
إتاحة خيارات جديدة للأزواج الذين لم يكن لديهم بدائل: قد يغير حياة من قيل لهم يومًا "لا يوجد أمل".
تقليل الحاجة للجراحات والتدخلات المعقدة: الكشف غير الجراحي يعفي المرضى من تجارب مرهقة ومكلفة.
إعادة التفكير في أساليب التشخيص والعلاج: النجاح الذي تحقق يفرض على المراكز الطبية تبني رؤى جديدة للعقم.
توسيع الوصول للتقنية مستقبلًا: مع تطور النظام وانتشاره، قد يصبح أكثر توفرًا وتكلفة أقل في دول متعددة.
وبحسب الدكتور ويليامز، فإن الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الدور البشري بل يوسّع قدرته، ويمنح الأمل لمن اعتقدوا أن الإنجاب لم يعد ممكنًا.
الأمل يعود بالعلم.. والذكاء الاصطناعي يفتح أبوابًا لم تُفتح من قبل
ما كان يبدو مستحيلًا أصبح اليوم ممكنًا. بفضل أدوات مثل STAR، لم تعد العتمة التي تحيط ببعض حالات العقم الذكوري بلا نهاية. الذكاء الاصطناعي لا يغير فقط طريقة تشخيص المرض، بل يخلق فرصًا حقيقية لبناء أسر بعد سنوات من الحزن والصمت.
وبينما يواصل العلماء تطوير هذه التكنولوجيا، قد تصبح تلك اللحظة التي ينتظرها الآباء المحتملون — اختبار حمل إيجابي، نبض جنين، ضحكة طفل — أقرب كثيرًا مما كانوا يتصورون.