في وقت بدا فيه أن الحزب الديمقراطي الأمريكي بات أسير وجوهه القديمة، وقواعده التقليدية، فاجأ شاب مسلم، من أصل إفريقي، الساحة السياسية بفوز صاخب في الانتخابات التمهيدية لمنصب عمدة نيويورك. زهران ممداني، ابن المخرجة السينمائية والمفكر اليساري خريج هارفارد، قلب الطاولة على الحاكم السابق لنيويورك أندرو كومو، مدعومًا بجمهور الطبقة العاملة، وبخطاب سياسي جريء لا يشبه لغة المجاملات الدبلوماسية.
لكن السؤال الذي يتردد الآن في أروقة الحزب ووسائل الإعلام: هل يمثل زهران ممداني لحظة أوباما جديدة؟ أم أن النظام السياسي الأمريكي تغير بما يكفي ليبتلع أمثاله قبل أن يصلوا إلى القمة؟
من بيت ثقافي سياسي إلى قلب نيويورك
ولد زهران ممداني في أوغندا عام 1991 لعائلة ذات خلفية فكرية وثقافية عميقة. والده هو المفكر الشهير محمود ممداني، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة كولومبيا، وأحد أبرز الباحثين في قضايا ما بعد الاستعمار في إفريقيا وآسيا. من أشهر مؤلفاته: "المواطن والرعية" و"عندما يحكم الضحايا: عن دارفور والإمبريالية"، وهما كتابان أثارا جدلاً واسعًا في الأوساط الأكاديمية والسياسية.
أما والدته، فهي ميرا ناير، المخرجة السينمائية المعروفة عالميًا، والتي أخرجت أفلامًا عديدة تناولت الهجرة والهوية والتقاطعات الثقافية بين الشرق والغرب. من أبرز أفلامها "سلام بومباي!" و"ملكة كاتوي"، والأول تم ترشيحه رسميًا لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1989. وقد شكلت تجربتها في السينما المستقلة، وميلها لقضايا الهجرة والعدالة الاجتماعية، خلفية غنية أثرت في توجه زهران السياسي لاحقًا.
انحياز للناس، لا للنخب
تميزت حملة زهران بخطاب جذري وجريء، يعبر بوضوح عن انحياز للعمال والبسطاء، وانتقاد صريح لسياسات الحزب الديمقراطي التي انحازت، برأيه، لكبار المتبرعين وأصحاب المصالح. قال في أحد خطاباته: "لا يمكننا بناء مدينة عادلة عندما تكتب قوانينها في حفلات عشاء الأغنياء." وأبرز شعاراته الانتخابية: "نيويورك يجب أن تعمل لصالح من يدفعون الضرائب، لا من يتهربون منها."
موقفه من فلسطين وفوضى السياسة الخارجية
سئل زهران أثناء مناظرة عن موقفه من زيارة نتنياهو المحتملة لنيويورك، فأجاب: "لن أرحب به. بل سأقبض عليه بتهمة ارتكاب جرائم حرب." وهو موقف يتسق مع دعمه المعروف لغزة، ومشاركته السابقة في احتجاجات داعمة للقضية الفلسطينية.
حملة من الناس وللناس
مول زهران حملته بأموال صغار المتبرعين، واعتمد على تعبئة شعبية قوية في الأحياء الأكثر تهميشًا. وعد بالتصدي لاحتكار العقارات، دعم النقل العام، تحسين أجور العاملين، ومواجهة نفوذ المال في السياسة.
ترامب يعلق… والحزب يرتبك
الرئيس دونالد ترامب غرد مهاجمًا فوز زهران بقوله: "الحزب الديمقراطي فاق جميع التوقعات!"، واصفًا الشاب بصاحب الوجه البشع والصوت المزعج". وهذا الهجوم طبيعي ومتوقع، فزهران يمثل النقيض لمشروع ترامب سياسيًا وأخلاقيًا.
الجيل القديم… والعجز عن قراءة المزاج الشعبي
فوز زهران كشف عن فجوة متسعة بين قيادة الحزب الديمقراطي وقاعدته الشعبية. كبار الحزب دعموا أندرو كومو، كما دعموا سابقًا مرشحين ضد بيرني ساندرز، لكنهم لم يدركوا أن خطابهم فقد جاذبيته أمام جيل جديد يبحث عن وجوه صادقة وتغييرات حقيقية. والآن، قد يكون أمام زهران ورفاقه فرصة لإعادة الحزب إلى جذوره الاجتماعية، فرغم أن الديمقراطيين يرفعون شعارات العدالة الاجتماعية، فإن قياداتهم التقليدية، أو ما يعرف بـ"عجائز الحزب"، خذلوا تطلعات الطبقة الوسطى، وهو ما مهد بحسب كثيرين، الطريق لصعود دونالد ترامب مجددًا، إذ وجد الأمريكيون في خطابه الغاضب ملاذًا احتجاجيًا على نظام سياسي لا يمثلهم.
فوز زهران ممداني، رغم تجاهل دعم كبار الحزب له، يشبه في دلالته الرمزية صعود باراك أوباما قبل أكثر من عقد: تمرد على القديم، وولادة توجه جديد يعطي الأولوية للناس، لا النخب. وربما يمثل زهران ورفاقه في الجناح التقدمي آخر أمل للحزب الديمقراطي كي يستعيد صلته بجذوره الاجتماعية، قبل أن يخسروا كل شيء لصالح اليمين الشعبوي.
هل يفوز في الانتخابات العامة؟
نيويورك مدينة ديمقراطية، والانتخابات التمهيدية للديمقراطيين غالبًا ما تحسم النتيجة. لكن هناك احتمال لتعبئة إعلامية مضادة، أو دعم مرشح مستقل كـ"ورقة تعطيل". مع ذلك، استطلاعات الرأي تشير إلى أن زهران يحظى بـ61% من نوايا التصويت بين الديمقراطيين و38% من المستقلين، ما يعزز فرصه في الانتخابات العامة.
خاتمة: نجم جديد أم ظاهرة عابرة؟
فوز زهران ليس مفاجأة انتخابية فحسب، بل مؤشر على تحول داخلي في المزاج الأمريكي، وعودة الروح لخطاب اجتماعي تراجع طويلاً. هل يتمكن من الصعود لمواقع أوسع كما فعل أوباما من قبل؟ أم أن النظام السياسي سيضع له سقفًا لا يمكن تجاوزه؟ الإجابات ستأتي تباعًا… لكن الواضح أن صفحة جديدة كتبت في نيويورك، وبحبر لم يعهدوه من قبل.