كم من مرة وقف الإنسان على حافة الهاوية، يشعر بأن العالم من حوله قد تحول إلى صحراء قاحلة، لا ظل فيها ولا ماء، وليس فيها سوى رياح العبث تعصف بكل ما هو جميل وثابت؟ في تلك اللحظات التي يخيم فيها الظلام، وتتهاوى القوى، ويبدو كل شيء بلا معنى، يدرك المرء أن وجود شخص واحد مخلص، شخص يقف بجوارك لا ليمنعك من السقوط، بل ليمسك بيدك عندما تسقط، هو الفارق بين اليأس والأمل، بين العدم والوجود.
هذا الكائن النادر، الذي يشبه واحة في صحراء، أو مرفأ آمناً في بحر هائج، ليس مجرد دعم عابر، بل هو حياة أخرى موازية، تمنحك القوة حين تنفد منك القوى.
فما قيمة هذا الإخلاص في عالم بات يقدس المصلحة، ويؤمن بالعلاقات السطحية؟ وكيف يمكن لهذا الركن الهادئ أن يصبح ملاذاً من ضجيج الحياة وعبثيتها؟
بين الفلسفة والواقع
لطالما تساءل الفلاسفة عن طبيعة العلاقات الإنسانية، وهل يمكن أن توجد صداقة حقيقية في عالم تحكمه المصالح؟ أرسطو، في كتابه "الأخلاق "، ميز بين ثلاثة أنواع من الصداقة: صداقة المنفعة، وصداقة المتعة، وصداقة الفضيلة. النوع الأخير وحده هو الذي يرقى إلى مستوى الإخلاص الحقيقي، لأنه قائم على المحبة الخالصة، لا على ما يمكن أن يجلبه الصديق من منافع.
لكن الواقع المعاصر، بكل تعقيداته وصراعاته، جعل من الصداقة الحقيقية ضرباً من الخيال أو نادراً من النوادر.
ففي زمن وسائل التواصل الاجتماعي، حيث الصداقات تحصى بعدد "الإعجابات" والتعليقات، أين يذهب المعنى الحقيقي للوقوف إلى جانب الآخر في محنته؟ أين يذهب ذلك الصمت الذي لا يحتاج إلى كلمات، بل إلى حضور يشبه الضوء في الظلام؟
من منظور نفسي، يحتاج الإنسان إلى الشعور بالأمان العاطفي كحاجته إلى الهواء والماء.
عالمنا "الموحش المظلم"، ليس موحشاً بسبب قسوته المادية فحسب، بل لأنه يفتقر إلى الدفء الإنساني. فالإنسان، بطبعه، كائن اجتماعي يبحث عن المرآة التي تعكس له ذاته، عن الصديق الذي يفهمه دون حاجة إلى شرح، عن ذلك الذي يمسح على قلبه كما يمسح على جرحه.
يقول فرويد إن أعظم سعادة للإنسان هي أن يشعر بأنه محبوب، وأن هناك من يهتم لأمره دون شروط. وهذا بالضبط ما يفعله الشخص المخلص: إنه يمنحك شعوراً بأنك لست وحيداً، بأن هناك من سيبقى حتى عندما يذهب الجميع. إنه ذلك الصوت الهادئ الذي يهمس في أذنك: "لا تقلق، أنا هنا."
العبثية الحديثة
في مجتمع يقدس الفردية والنجاح المادي، يصبح الإخلاص ضحية للسرعة والاستهلاك. لقد تحوّلت العلاقات إلى معاملات، وأصبحت المشاعر تقاس بمدى الفائدة التي تعود على الشخص.
العبثية الوجودية، التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي كامو، تتجلى في هذا الفراغ العاطفي، حيث يصبح كل شيء مؤقتاً، قابلاً للاستبدال، بلا عمق ولا معنى.
ولكن، وسط هذا الضجيج، يظل هناك من يحمل روحاً نقية، من يرفض أن يكون تابعاً لموضة المشاعر الزائفة. هؤلاء هم الذين يجعلون الحياة تستحق أن تعاش، لأنهم يذكروننا بأن الإنسانية لم تمت بعد، وأن الحب الحقيقي، وصداقة الفضيلة، والإخلاص الصادق، ما زالت موجودة، وإن كانت نادرة.
إذا تأملنا طبيعة العصر الحديث، سنجد أنه عصر "التقليعات" العابرة، حيث كل شيء يستهلك بسرعة: الأفكار، العلاقات، المشاعر، وحتى القيم. في هذا السياق، يصبح الإخلاص ظاهرة استثنائية، بل ثورية، لأنه يمثل مقاومة ضد ثقافة "النزوة العابرة".
فالشخص المخلص اليوم ليس مجرد صديق، بل هو متمرد ضد تيار العصر، يرفض أن تكون علاقاته قابلة للتصريف مثل السلع الاستهلاكية.
لكن لماذا أصبح الإخلاص نادراً إلى هذا الحد؟ ربما لأن العالم الرأسمالي الحديث حول كل شيء، بما في ذلك المشاعر، إلى سلعة. فالصداقة أضحت "شبكة علاقات"، والحب تحول إلى "استثمار عاطفي"، والوفاء صار "خياراً غير عملي".
في هذا المناخ، يصبح الشخص المخلص أشبه بنبتة نادرة تنمو في أرض قاحلة، تذكرنا بأن الجمال ما زال ممكناً، رغم كل شيء.
من الناحية النفسية، يمكن تفسير الحاجة إلى الشخص المخلص من خلال نظريات "الارتباط" (Attachment Theory) التي طورها جون بولبي.
فالإنسان، منذ طفولته، يبحث عن شخص يكون بمثابة "ملاذ آمن" يعود إليه في لحظات الضعف. هذا الاحتياج لا يختفي مع مرور السنوات، بل يتخذ أشكالاً أخرى. فالبالغ الذي يجد صديقاً مخلصاً أو حبيباً وفياً، يعيش تجربة تشبه تلك الطمأنينة التي كان يشعر بها الطفل بين أحضان أمه.
لكن ماذا يحدث عندما يفتقد الإنسان هذا "الملاذ الآمن"؟ هنا تظهر الأمراض النفسية الحديثة: القلق الوجودي، الشعور بالعزلة رغم الاتصال الدائم، الاكتئاب الناتج عن الفراغ العاطفي. إنها أعراض مجتمع فقد القدرة على تقدير الإخلاص، فبات أفراده يعيشون في دوامة من العلاقات الفارغة، مثل ظمآن يلهث وراء سراب.
المجتمع السائل
عالمنا اليوم، كما وصفه عالم الاجتماع زيجمونت باومان، هو "عالم سائل"، حيث كل شيء متغير، لا ثبات فيه. الوظائف لم تعد دائمة، العلاقات لم تعد مقدسة، حتى الهويات صارت هجينة ومتحولة. في هذا العالم السائل، يصبح الإخلاص قيمة "صلبة" ثقيلة، يصعب حملها، لأنها تتطلب الثبات في زمن التقلب، والاستمرارية في زمن المؤقت.
لكن هل يعني هذا أن الإخلاص أصبح مستحيلاً؟ بالطبع لا. لكنه صار بحاجة إلى جهد أكبر، وإرادة أصلب. فالشخص المخلص اليوم لا يختلف عن ذلك الراهب في العصور الوسطى الذي كان يحافظ على شعلة المعرفة حية بينما كانت الظلمات تحيط به من كل جانب.
إنه حارس للقيم الإنسانية في زمن يحاول فيه العالم أن يقنعنا بأن هذه القيم لم تعد ذات قيمة.
[email protected]