للعيون مكانة كبيرة في الديانة الأساطير المصرية القديمة، فنجد عين حورس التي مزقها المعبود "ست" تعود إليه مرة أخرى بفعل السحر، ثم أصبحت تلك العين المستردة رمزًا للحماية والشفاء واستخدمت في عدد كبير من التمائم، لقد سرت هذه الأسطورة إلى الأمثال الشعبية فظهر مثل "العين عليها حارس"، وربما تحرف الاسم من "حورس" إل "حارس".
موضوعات مقترحة
تميمة تمثل عين المعبود حورس
لذا احتل الاهتمام بالعين والوقاية من أمراضها ركنَا أساسيًا من البرديات الطبية في مصر القديمة، حيث انتشرت في مصر القديمة العديد من أمراض العيون، وكان من أشهرها، إعتام عدسة العين، والتهاب ملتحمة العين، والتراكوما.
عُرفت العين في مصر القديمة باسم "إرت"، بينما عُرف طب العيون بـ "حاو"، وأُطلق على طبيب العيون في اللغة المصرية القديمة لقب "سنو إرتي".
وقد حظي أطباء العيون بمهارة عالية في مصر القديمة، حتى أن ملك الفرس سيروس أرسل إلى الملك أحمس الثاني لطلب المساعدة من خدمات أطباء العيون المصريين، ويرى هيرودوت أن هذا قد يكون أحد أسباب الغزو الفارسي لمصر.
يذكر حسن كمال أن تعدد الوصفات العلاجية الخاصة بمشكلات العيون يُعد دليلاً على انتشار هذا النوع من الأمراض.
وقد وصف الطبيب المصري القديم العديد من أمراض العيون في برديتي برلين ولندن، كما تحتوي بردية إيبرس على قسم كامل عن أمراض العيون، لكن معظم معلوماتنا تأتي بشكل غير مباشر من الوصفات الطبية في هذه البردية وغيرها، حيث يصعب غالبًا تحديد الأمراض بدقة؛ نظرًا لتضمنها أكثر من 60 وصفة علاجية في الفقرات من 336 إلى 431، وقد وجدنا أن أغلب إصابات العين كانت تُعالج بالقطرات والمراهم التي تحتوي على الأملاح المعدنية وتُستخدم كمضادات للالتهاب.
ومن بين الأمراض ومشكلات العيون التي ذُكرت كثيرًا في البرديات الطبية هي «جروح العينين»، بالإضافة إلى أمراض العيون الأخرى التي تتفاقم بفعل الحرارة والغبار والحشرات أو جروح في لحمية العين.
بردية إيبرس
كما أن الأعمال التي تتطلب ظروف إضاءة سيئة ومستويات ضوء متغيرة، كعمال المحاجر ونحاتي المقابر الصخرية، قد تتسبب في بعض مشكلات العين مثل رُهاب الضوء والرأرأة (تذبذبات مقل العيون)، مما يجعل التركيز على أي شيء مستحيلًا. وهناك لوحة تُعرف باسم «لوحة الغياب» من بقايا قرية دير المدينة، تحتوي على عذر للتغيب عن العمل بسبب اضطرابات العين، كما عُثر على قطعة أوستراكا محفوظة الآن بالمتحف المصري تحت رقم (2095) مكتوب عليها تعويذة لعلاج العينين.
لوحة الغياب لعمال مصريين في دير المدينة
وتُظهر العديد من الرسوم والنقوش المحفورة لأشخاص مكفوفين على جدران المعابد والمقابر وهم يمارسون الغناء والموسيقى، وربما كان ذلك شكلاً من أشكال التأهيل الاجتماعي لهم.
عازفان مصريان مصابان بالعمى
أدرك المصريون القدماء الجانب التشريحي للجزء الخارجي من العين فقط، فقد ميزوا بين العضلات الجانبية لجسم العين، والرموش، والجفون، بالإضافة إلى حدقة العين وبياض العين.
وفي بعض الأحيان، فرقوا بين الحدقة والقزحية، وميزوا بين علاج العين من الناحية الخارجية والداخلية، ومن أشهر هذه الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى يومنا هذا:
1ـ إصابة العين بالأجسام الغريبة
يُعرف الاسم المذكور لهذه الإصابة في المراجع الطبية الحديثة بـ "An intra-ocular foreign body"، أما في مصر القديمة، فقد عُرف هذا المرض باسم "تخن" أو "تخن م أرت".
وتُعد هذه الإصابة من أكثر مشكلات العين شيوعًا قديمًا وحديثًا، وكان هناك سعي دائم لاستخراج الأجسام الغريبة التي تلتصق بالعين.
وتُظهر النقوش على جدران مقبرة إيبوي (TT217) حالة تُعاني من هذه المشكلة، حيث صُور طبيب منهمك في العناية بعين أحد الأشخاص، محاولًا استخراج جسم غريب من تحت الجفن، أو أنه يضع قطرة في عين المصاب مستعينًا بقطارة طويلة. وإلى جانبه، وُجد صندوق صغير ربما كان يحتوي على الأدوات والقطرات، ووعاء قد يكون مخصصًا لإذابة المساحيق.
ذُكر هذا المرض وعلاجه في بردية "إيبرس"، التي قدمت حلولًا لعلاجه عن طريق خلطات متعددة:
ـ خلطة أولى: تتكون من شاشا غير مطبوخ (مادة غير معروفة)، وخروب، وعسل، تُطحن جميعها جيدًا وتُستخدم كضمادات فوق العين.
ـ خلطة ثانية: تتكون من براز طفل رضيع مجفف وعسل ومرق الخضروات، توضع فوق العين.
نقش يُظهر إصابة جسم غريب على جدران مقبرة إيبوي (TT217)
2ـ التراكوما (Trachoma)
سُمي مرض التراكوما في مصر القديمة باسم "نيحات/نيهات"، ويعني "الحبيبات الصغيرة"، وهو فيروس يسبب التهابًا مزمنًا في ملتحمة العين، ويسببه ميكروب الكلاميديا تراكوماتس، و تنتشر التراكوما بسرعة بفعل الذباب، وتسبب خطورة على العين قد تصل إلى العمى.
وربما كانت التراكوما هي المسؤولة أيضًا عن داء الشعرة المذكور في بردية إيبرس تحت اسم "التواء الرموش"، ويسبب هذا المرض احتكاكًا بقرنية العين بسبب حدوث خشونة في الملتحمة، وهو من الأمراض التي توطنت في مصر القديمة.
وتحدث الإصابة بها نتيجة التعرض للغبار أو الرياح أو الدخان، مما يُحدث تهيجًا شديدًا في العين، في حالة الإصابة الخفيفة، يشعر المُصاب بوجود حبيبات رمل داخل عينه، بينما في حالات الإصابة الشديدة يحدث ألم وإفراز واحتقان ورهاب من الضوء.
وفقًا لما جاء في بردية إيبرس، فقد تم علاج التراكوما باستخدام طلاء العيون الذي يحتوي على مركبات النحاس للحد من انتقال العدوى. كما ورد ذكر لثلاث وصفات أخرى:
ـ الوصفة الأولى: نبات الأثمد، والمغرة الصفراء، والمغرة الحمراء، والنطرون.
ـ الوصفة الثانية: خلط عصارة مرارة سلحفاة وراتنج نبات السستوس.
ـ الوصفة الثالثة: يُطحن كل من أوراق الأكاسيا ومسحوق الخروب والجرانيت، ثم تُضمد بهم العينان.
3ـ الظفرة (Pterygium)
عُرفت الظفرة في مصر القديمة باسم "إيدت"، وقد اعتُبرت الشمس وما تحتويه من الأشعة فوق البنفسجية عامل الإصابة الرئيسي، كما أن التعرض طويل الأمد للرياح والغبار قد يلعب دورًا كبيرًا في الإصابة. عادة ما يزداد انتشار حالات الظفرة في الطقس المشمس الجاف.
الظفرة مثلثية الشكل، رأسها يتجه نحو إنسان العين، وهي بقعة معتمة تمتد على جزء من القرنية، وإذا تُركت الحالة دون علاج، يُمكن أن تؤدي الظفرة إلى العمى.
وقد ذُكر علاج مشكلة الظفرة في بردية إيبرس باستخدام الأثمد وبيضة نعام، حيث يُطحنان معًا ويوضعان على جفن العين.
4. ضعف الإبصار
سُمي ضعف الإبصار في مصر القديمة باسم "حارو"، وينتج ضعف البصر عادة من عتامات القرنية أو تقرحها أو تشوهها، أو بسبب أمراض قاع العين والمخ.
يبدو أن العمال في قرية دير المدينة عانوا بشدة من أمراض العيون، وهناك احتمالية كبيرة أن خطر العمى كان يهدد عددًا كبيرًا من عمال بناء المقابر، بسبب انتشار غبار الأحجار، والانتقال المفاجئ ما بين العمل في ظلام المقبرة ووهج الشمس وحرارتها في الخارج، بالإضافة إلى الأتربة وأدخنة المصابيح التي يتعرض لها العمال طوال يومهم. يتضح ذلك من خلال رسالة تعود لعهد الملك رمسيس الثاني، أرسلها أحد رسامي دير المدينة، ويدعى "بوي"، إلى ابنه الرسام في دير المدينة أيضًا، ويدعى "با-رع-حتب"، يستعطفه فيها أن يرسل له الدواء بعدما تخلى عنه آمون وأصبح غير قادر على الرؤية، يقول له فيها:
"لا تتركني فإني في تعاسة، لا تنهِ أسفك عليّ، لأنني في ظلام. لقد هجرني إلهي آمون. أحضر بعض العسل لعيني وبعض الدهن، ودهان العين الحقيقي بأسرع ما يمكن؛ ألست والدك؟! نعم، إني ضعيف وأريد الاحتفاظ بنظري، ونظري مفقود."
وقد ذكرت بردية إيبرس في الوصفة علاجًا لتحسين الإبصار (الأثمد، عسل، ملكيت، مغرة صفراء، وأشياء أخرى غير معروفة)، حيث تُطحن جميعًا وتوضع على العين.
5ـ مشكلات أشعة الشمس
واجه المصريون مشكلة أشعة الشمس الشديدة، والتي كانت تساهم في تفاقم العديد من مشكلات العين. ولتجنب هذه المشكلة حفاظًا على البصر، قاموا بدهن مادة حول العين تُسمى الملكيت، وهو معدن نحاسي أخضر مستخرج من سيناء ومناجم الصحراء الشرقية. كما استخدموا أيضًا مادة المسدميت (Mesdemet) أو مادة الغالينا (Galena)، وهو مسحوق تجميلي يحمي العين من الرمال والرياح والحشرات.
رنا التونسي
باحث دكتوراه فى التاريخ والأثار المصرية القديمة بكلية الآداب جامعة طنطا
رئيس لجنة البحوث والدرسات الآثرية بحملة الدفاع عن الحضارة، نائب رئيس الحملة
د.رنا التونسي