إن من أكثر الأمور إرهاقًا لنفس الكاتب هي حالة التخبط التي يعيشها عندما يتعقد المشهد حين تتفاقم المشكلات التي تطرأ عليه من بيئته وعالمه المحيط به؛ وقت هروب الأفكار منه تباعًا، إلى جانب رغبة على الكتابة والانتصار على فقدان الشغف يبحث عن موضوع جديد يعبر من خلاله عن نفسه، عن مجتمعه وعالمه، عن رؤيته الخاصة ووجهة نظره -بشرط- أن يكون هذا المحتوى الذي يتم عرضه به ما يسعد القارئ ويحسن من شعوره الداخلي.
وها هي يدي تمتد الآن تمسك بجهاز الراديو الصغير الذي أضعه دومًا بجانبي، ذلك الساحر الذي يجذبني إليه ببرامجه وبحكاياته، إنه صوت الفنانة الراحلة "ميمي شكيب" يتهادى إلى سمعي فهي صاحبة الشخصية القوية وصاحبة الصوت الذي لا تخطئه أذن.
أستمع إليها وهي توجه حديثها المستعر بالانفعال والغضب لابنتها الصغرى -نوارة- التي حملت اسمها تلك السهرة الدرامية الهادفة، وفي الخلفية كانت هناك العديد من الأصوات تتداخل مع بعضها البعض، فهمت من تحاورها أن القصة موضوعها يدور حول مشكلة التفرقة بين الأبناء في المعاملة، تأهبت للاستماع بأذان أكثر إصغاءً؛ سعيدة بهذه الصدفة التي لم تكن تخطر لي على بال ولم ترد بخاطري.
أدركت من سير الأحداث أن هذه العائلة مكونة من أب وأم غير متفقين، ومن أخ متنمر وأخت لا ترى إلا احتياجاتها فقط، وهناك سيدة تعمل كمربية أو خادمة تدعى زينب كانت أرقهم شعورًا بمأساة نوارة فكم كانت تواسيها وتقدم إليها النصح.
لم تحظَ نوارة بقدر كبير من الجمال على عكس أختها "ناهد" الجميلة والمتفوقة في دراستها الجامعية، صاحبة اللسان الحلو وبحسن اختيار الألفاظ، أما نوارة فكانت لا تمتلك تلك الصفة مما زاد من معاناتها التي كانت سببًا في تأخرها الدراسي الذي مهد لها الطريق للرسوب لمدة عامين متتالين، هنا يكمن السر وهنا أيضًا يكمن الخطر.
عادت الأم من الخارج بصحبة ابنتها ناهد التي كانت ترتدي ثوبًا جديدًا غير الذي خرجت به من المنزل، لاحظت نوارة ذلك فثارت ثورة أفقدتها توازنها الانفعالي، تنبه الأب الذي كان نائمًا في غرفته، فنادى على ابنته ناهد ليسألها عن السبب، ولما علم بما كان طلب منها أن تمنح نوارة إحدى فساتينها القديمة، وتبلغها بأنه سوف يشتري لها ثوبًا جديدًا في أقرب وقت.
دخلت ناهد حجرتها لتجد نوارة تتفقد دولاب ملابسها، أبعدتها عنه بعد أن نهرتها ثم أخرجت لها فستانًا قديمًا لترتديه، ولم تقم ناهد بإبلاغها بأي حرف مما نطق به الأب، رفضت نوارة أن ترتديه معللة رفضها بأنه قديم وانفعلت على أختها مطالبة إياها أن تضيء مصباح الغرفة الذي أغلقته، لترد عليها ناهد متعجبة وقائلة: أنا لم أغلقه فهل عميتي؟ ثم تصرخ ناهد وتنادي الجميع بعد تأكدها من أن نوارة قد فقدت البصر بالفعل.
انقلب البيت بمن فيه رأسًا على عقب، الكل راح يلوم نفسه وإن لم يفصح بذلك أمام باقي أفراد الأسرة، خاصة هذا الأخ المتنمر وهذه الأم التي تفننت في قهر ابنتها دون أن تعلم بأنها السبب فيما يحدث لها من إخفاق ومن فشل، تحولت الأنظار كلها باتجاه نوارة فقاموا بعرضها على أكثر من طبيب متخصص، لكن الأطباء أجمعوا على أن حالة نوارة ليس لها علاج.
ازداد وخز ضمائرهم وتعددت محاولات البحث، حتى تم العثور على هذا الطبيب المثقف الواعي، الرجل الذي أدرك أن الأمر ليس بسبب مرض عضوي فحسب بل إنه له بعد نفسي آخر هو لا يعرفه، تحدث مع الأب الذي قام بتوضيح الأمر بأكمله فوجه حديثه لأسرتها بضرورة توفير الاهتمام والحب، اجتهدت الأسرة على قدر استطاعتها في تقديم الدعم النفسي والعاطفي، باصطحاب نوارة للتنزه وبشراء ما كانت تتمناه من قبل، تحسنت حالتها النفسية شيئًا فشيئًا أمام هذا الكم الهائل من الاهتمام والحب.
وهذا ما شجع الطبيب على مخاطبة نوارة بضرورة إجراء عملية جراحية عاجلة لها، لكنه فوجيء برفضها القاطع والنهائي، قال الطبيب لنوارة: دعيني أخمن سبب رفضك ثم احكمي على ظني، إنك تخشين من عودة بصرك إليك فتعود معه أسرتك لما كانت عليه من سوء تقدير ومعاملة، فأجابته بأن هذا بالفعل ما يخيفها، لكنه وعدها بأنه من سيتحمل مسئولية ذلك، وفي تلك اللحظة الحاسمة كانت الأسرة بأكملها حاضرة دون علم نوارة بالطبع.
اصطحب الطبيب نوارة معه إلى المستشفى بعد أن حدد موعدًا لإجراء العملية الجراحية، وها هي نوارة قد استعادت بصرها وسط فرحة الأهل والأصدقاء، بكت الأم كما لم تبكِ من قبل وظلت واقفة خارج الغرفة فهي تعلم أنها كانت الأكثر قسوة عليها، لكن نوارة سامحت الجميع وعبرت عن محبتها لهم، تعهدت الأسرة بتقديم الدعم النفسي لها حتى تتمكن من النجاح في الحياة والعودة لممارسة هوايتها المحببة والمفضلة لديها.
أمسك الأب بمبلغ من المال وطلب من الطبيب أن يأخذ منه ما شاء وما يكفي، لكن الطبيب رفض وقال: أنتم من عالجتموها بحبكم واهتمامكم بها، أما أنا فلم أفعل شيئًا؛ ابنتكم كانت مصابة بحالة من العمى الهيستيري الذي يرجع سببه للوقوع تحت ضغط نفسي شديد، يضطر المريض فيه للجوء لتلك الوسيلة الدفاعية هربًا من تعرضه لمزيد من الضغط النفسي.
انتهت القصة وانتهت سهرة درامية رائعة حفرت بذاكرتي، بقيت أسترجع ما مر بها من أحداث ومن وقائع مهمة، ثم قررت من بعدها أن أسطرها، أكتب تفاصيلها علها تنفع، فكم من نوارة بيننا؟ نوارة موجودة في كل بيت.