ما حدث خلال الأيام والساعات الماضية، منذ بدء الحرب بين إسرائيل وإيران واستهداف كلٍ منهما للآخر بضرباتٍ موجعةٍ، مرورًا باستهداف أمريكا المفاعلات النووية الإيرانية، وانتهاءً باستهداف إيران القاعدة الأمريكية بالعديد في قطر، ثم إعلان ترامب انتهاء الحرب بين إسرائيل وإيران، كل ذلك يذكرني بالحرب التي لم ينهزم فيها أحدٌ، وهي غزوة تبوك التي فضحت المنافقين الذين تخلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حرب "لا خاسر فيها"!!
في هذه الحرب، لم يخسر أحدٌ من وجهة نظر أطرافها؛ حيث تعتقد أمريكا أنها حققت أهدافها بالقضاء على المشروع النووي الإيراني، وإيران تشعر بأنها انتصرت وأحرجت إسرائيل وألحقت بها خسائرَ كبيرةً، وإسرائيل تُوهم نفسَها بأنها قضت على الإمبراطورية الفارسية. لذا، كل طرفٍ يحتفل بالنصر؛ ففي ميدان الثورة في طهران يحتفل الإيرانيون، والإسرائيليون يحتفلون بالنصر أيضًا في ميدان رابين في تل أبيب.
حقائق كشفتها الحرب
لقد كشفت هذه الحرب عدة حقائق، أهمها ما كان يُحاك في الكواليس من إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية الجديدة للشرق الأوسط، وأن هناك مواءماتٍ تمت في الغرف المغلقة والوصول إلى اتفاق سلامٍ بين الأطراف المختلفة، مع التجاهل التام للشعب الفلسطيني وحقوقه، وما يتعرض له من حرب الإبادة الجماعية.
الأمر الثاني من هذه الحقائق أن إسرائيل وأمريكا هما سبب الخراب الذي حل بهذه المنطقة؛ فنتنياهو أباد غزة ومعه حكومةٌ مجرمةٌ تهدف لتوسيع نطاق الحرب من أجل بقائها في السلطة، وترامب يدعمها بكل ما تحت يده من سلطاتٍ، وكان يمكن له وقف كل هذه الحرب والحد من توسعها، لكنه لم يفعل، مع الأخذ في الاعتبار أنه أعلن أنه حقق السلام بين إسرائيل وإيران في ساعاتٍ، على الرغم من أن هذا الأمر لن يستمر كثيرًا من وجهة نظري المتواضعة، خاصةً أن ترامب أدمن بيع الوهم قبل وبعد توليه السلطة، فقد صدع أدمغتنا بأنه سيقوم بإحلال السلام والقضاء على الحروب سواءً في غزة أو في روسيا وأوكرانيا، وفي النهاية لم نر شيئًا من هذا تحقق.
اتفاقات "الضربات المتبادلة"
إن "طلقة السلام" التي اعتمد ترامب فيها على إنهاء الصراع بين أمريكا وإسرائيل والاتفاق المسبق على بعض الضربات وكيفية توجيهها، كأننا أمام فيلمٍ سينمائيٍ يتم فيه الاتفاق بين البطل والكومبارس مسبقًا على كيفية تبادل اللكمات في أفلام الأكشن، حتى يشعر الجمهور بأن الضرب هو ضربٌ حقيقيٌ ومؤلمٌ، ولكنه في الحقيقة متفقٌ عليه.
لقد أبلغت إيران قبل ضرب قاعدة العديد بقطر، أكبر قاعدةٍ للأمريكان في الشرق الأوسط، مما أدى إلى قيام الأمريكان بإخلاء القاعدة بعد قصفهم لمنشآت إيران (أي أن الضرر سيكون ماديًا)، علاوةً على قيامها بإغلاق مجالها الجوي قبلها بفترةٍ، مما يؤكد حرص إيران على الحفاظ على العلاقة مع قطر وأمريكا، مما أدى في النهاية إلى قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالوصول إلى اتفاقٍ كاملٍ بين إسرائيل وإيران ووقفٍ كاملٍ وشاملٍ لإطلاق النار.
ضعف القبة الحديدية
إن مما تم اكتشافه في هذه الحرب أن ما حدث للمفاعلات الإيرانية النووية وما تعرضتْ له من ضرباتٍ لا يتجاوز ضرباتٍ تليفزيونيةً لحفظ ماء وجه أمريكا.
وأن إصرار إيران على عدم توسيع الحرب في هذا التوقيت أمرٌ مهمٌ للغاية في ظل اختراق الجبهة الداخلية الإيرانية، إضافةً أيضًا إلى أن الضربات المؤثرة التي وُجِّهت للداخل الإسرائيلي كشَفت ضعف ووهن القبة الحديدية الإسرائيلية، وأنها أكذوبةٌ لا تختلف كثيرًا، عن مقولة "الجيش الذي لا يُقهر". وإن ما حققته إيران أجبر إسرائيل على قبول الهزيمة ووقف عدوانها، على الرغم من أن أمريكا ساعدت إسرائيل على ضرب إيران، لكنها لم تستطع إزالة الخطر عن إسرائيل، وافتضح حجم إسرائيل الحقيقي أمام العالم.
مخطط تصفية القضية الفلسطينية
مما لا شك فيه أن الثقة التي كان يتحدث بها الرئيس الأمريكي ترامب بعد حديثه عن إنهاء الحرب يؤكد أنه لو أراد وقف العدوان والقتل لأطفال ونساء وشيوخ غزة لفعل، ولكن هناك رغبةٌ في ذلك لتحقيق مخطط تصفية القضية الفلسطينية؛ فعلى جميع الدول والمنظمات الدولية الضغط على أمريكا وإسرائيل؛ لأنه لا أمن ولا استقرار بالمنطقة ولا بالعالم إلا بسلامٍ عادلٍ وشاملٍ ووقفٍ عاجلٍ لقتل النساء والأطفال وإنهاء الحصار والقتل تجويعًا، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. وأنه لا بد من تحقيقٍ حلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية، ووقف انحياز الدول لإسرائيل في كل أطماعها وتوسعاتها الاستعمارية، ووقف العربدة الإسرائيلية المستمرة والقتل اليومي الممنهج للشعب الفلسطيني الأعزل في ظل الحماية الأمريكية.
نتائج الحرب إقليميًا ودوليًا
لقد توجه ترامب بالأمس إلى حلف الناتو منتشيًا بالنصر المؤقت الذي حققه ليطالب مجموعة الناتو بزيادة الدعم الموجه، قائلًا: "إنه سيكون الآن أكثر هدوءًا بعدما مر به مؤخرًا مع إسرائيل وإيران" وفق قوله.
وعلى الجانب الآخر، رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أسهمه في انخفاضٍ، والمعارضة الإسرائيلية ستقضي عليه خلال الأيام المقبلة، وسيتم الإطاحة به في أقرب فرصةٍ، وما زالت المقاومة في غزة وخان يونس تحصد جنوده المحصنين في مدرعاتهم، وآخر عملية يُقتل فيها 7 جنود، كما تستخدم أمريكا ورقة تخفيف العقوبات التي كانت تفرضها واشنطن على طهران لمغازلتها وإبعادها عن حضن الصين وروسيا.
ولقد أكدت هذه الحرب أيضًا أهمية الطلب المصري بضرورة تغيير نظام التصويت ووقف العمل بحق الفيتو في مجلس الأمن، وأظهرت عجز الأمم المتحدة وأجهزتها أمام الفيتو الأمريكي الذي لا يُستخدم إلا ضد الشعوب المستضعفة.
مكانة مصر ودورها
وفي الختام أقول مؤكدًا: إن لنا أن نفتخر؛ لأن لنا جيشًا يهابه القاصي والداني، في الوقت الذي فيه شعوبٌ تختبئ في الملاجئ وتغلق المطارات. لقد كشفت الأيام والأحداث السياسية المتلاحقة الرؤية الثاقبة للقيادة والدول المصرية في كيفية التعاطي مع الأحداث والتأكيد على أن مصر هي رمانة الميزان وحائط الصد الأول والأخير المنيع للمنطقة ودول الخليج ضد أي تهديدٍ، وأنها دولة الأمن والأمان وملجأ الجميع، وأن قواتها المسلحة ومؤسساتها الوطنية الواعية قادرةٌ على حماية مقدرات ومكتسبات الوطن وتحافظ على استقرارها.
نتمنى أن نُحسن قراءة الواقع وما وراء الكواليس ومعرفة ما يُحاك ضدنا وضد قضايا الأمة العربية، ومن باع القضية الفلسطينية ومن يبذل الغالي والنفيس من أجلها، ومن يدعمها لأغراضٍ خاصةٍ ومآربَ شخصيةٍ. داعين الله أن يعم الخير والسلام للمنطقة وشعوبها العربية الشقيقة وللعالم أجمع، وتحيا مصر قيادةً وشعبًا، ودامت آمنةً مطمئنةً غنيةً بخيرها وعزة نفسها، ووفق الله ولاة أمورنا وقيادتنا لما فيه خير البلاد والعباد، ورفع الكرب عن أشقائنا في فلسطين.