أعلم أن أدرينالينك يعانق السحاب.. وضغطك لا يجد في منطقتنا مَدرجًا سليمًا وحيدًا لهبوط آمن.. وعقلك مُختطف لا يبرح الشاشات متابعًا لحروب هنا أو متفاعلًا مع كوارث هناك.. وقلبك ممزق بين تعاطف وقلق وخوف وألم ورعب.. فاسمح لي أن أنزع "الفيشة" لدقائق.. وأن أتأبط ذراعك إلى خارج هذه الدائرة المفرغة التي تقتلك ببطء دون أن تدري.. وتفعل بعقلك الباطن الأفاعيل دون أن تدرك.. وتهزمك دون معركة.. كي أسلحك، ونفسي، ببعض الحيل النفسية التي يمكن أن تُنجيك وسط هذا الخضم العاصف بالأخبار المأساوية والأحداث الساحقة.. قبل أن تصبح، مثلي، من "الماشيين بعلاج".
جمع ما مضى
كُف فورًا يا صاحبي عن جمع الكوارث فوق رأسك من خلال ربطها بنسق واحد لا ينفصم.. ذلك الذي لا تتوقف السوشيال ميديا عن تداوله، وهو كفيل بأن يجعل أي جيل منحوس من ساسه لراسه ومن مبتدئه لمنتهاه.. ذلك النسق القائم على أننا (جيل مشئوم مأزوم بدأ بالزلزال ثم حرب الخليج ثم الثورة ثم وباء ثم حرب أوكرانيا تم حرب إسرائيل على غزة وأخيرًا حرب إسرائيل وإيران.. إلخ)، بينما لكل جيل كوارثه وأزماته وبواعث همه وتشاؤمه، وإن بدت تلك اللعبة مقبولة على سبيل السلوى والسخرية والعزاء، أو حتى على سبيل ادعاء البطولة، لهي كفيلة بأن تُحمل عقلك الباطن أثقالًا من الماضي أسقطها عنك النسيان.
إن هي إلا هموم تنوء بها الأنفس مضت وولت ووضعها عنك الدهر.. فمالك تجمعها جمعًا من سلال قمامة الذاكرة وتحملها من جديد، حتى إذا ما أصابتك مصيبة أخرى، وهي سنة الحياة، واجهتها منهكًا قصير النفس عليل الهمة، ووضعتها مع سابقاتها مُثقلًا كارهًا، ثم إذا بك في النهاية تشكو قلة الحظ وكثرة الضغوط والمِحن.
داوم على وضع النهايات عند كل ألم زال وانتهى.. ونظف قريحتك من الحزن كي تفسح بعقلك وقلبك مكانًا للجديد، وتوقف عن استدعاء ما مضى مع كل حادث.. ودرب نفسك على أن الكَبَد هو القاعدة ولا يختارك وحدك، وأن الفرحة هي الاستثناء ولا تهرب منك دون غيرك.. فلا تجزع.
سيأتيك الجهبذ الكامن في التعليقات بأن من ترك ماضيه ليس له حاضر وأن ذاكرة السمكة آفتنا.. وليس هذا ما أقصد.. ما أعنيه هو هواية رص الهزائم واستدعاء المصائب والنوائب فوق رؤوسنا.. ثم انتظار أن نواجه تحديات اليوم ومصائر الغد بقلب سليم وصدر رحب وعزم حاضر.
البحث عن نهاية سعيدة
لعل أخطر ما رسخته الروايات والمسرحيات والأفلام في عقلنا الباطن أن الخير واضح والشر جلي وأن ثَم سياقًا زمنيًا لحدوتة حياتنا له بداية ونهاية، وغالبًا ما تكون النهاية السعيدة بانتصار الحق وانسحال الباطل وانسدال الستار وفرحة الجماهير بالتصفيق، بينما الواقع ليس كذلك على الإطلاق، قد يحدث ذلك على مدى زمني يتجاوز حياتك، وربما حياة أبنائك، لا أقول لك إن الحياة ليست عادلة، إنما يمكن أن يتحقق عدلها بينما أنت لست على قيدها بالضرورة، أو من وجه آخر لا تراه ولا تعيه أو تحيط به علمًا، ومن ثم، تضيع أيامك بينما تنتظر انتصار الحق لأنك تراه حقًا وهزيمة الباطل لأنك تراه باطلًا.. ومع كل يوم لا يحدث فيه ذلك تندب وتشجب على المنصات بحثًا عن العدل المهدور والإنسانية الغائبة، ويصيبك اليأس والأسى، وربما ينتهي بك الحال بالقنوط الكامل.. بينما الأمر ليس كذلك، هو سراب شاعري ساذج وخطأ طفولي غبي لا تتوقف عن ارتكابه طواعية، ثم تشكو تبعاته بغباء أكبر.
سيأتيك الجهبذ الكامن في التعليقات يُفحمك بأنك هكذا تنكر سنة الله في خلقه بانتصار الحق وانهزام الباطل وهو ما لا أفعله إطلاقًا.. ما قصدته أن الانتصار الذي تأمله قد لا تراه رأي عينك.. فلا تيأس ولا تبتئس لقلة حيلتك ولا تلقِ بكل اللوم على نفسك.. وثق بحكمة الله في تصريف قضائه وسننه ومداولات أيامه.
الاستغراق الكامل
التعاطف مرغوب لا شك وهو من أهم سماتك كي تظل إنسانًا.. ولكن خيطًا رفيعًا يفصل بين تعاطفك المرغوب المصحوب بفعل إيجابي كتقديم العون ما استطعت إليه سبيلا، وبين أن تضع نفسك كليةً بمشاعرك وحالك ومحتالك مكان غيرك، بينما الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وقد أقامك في ظرفك الزماني والمكاني، وقدر لك فرحًا وحزنًا، فإذا بك تضع نفسك مكان كل مأزوم فلا تنجو من الأزمة، ومحل كل مهموم فلا تشفى من الهم.
سيأتيك الجهبذ الكامن في التعليقات بأننا نبدأ أنانيتنا ونفقد إنسانيتنا حين نتوقف عن الإحساس بالآخر.. والرد أن تعاطفك من محل قوة هو أنفع له وأنجع.. وأسلم له ولك.
والحق أن ما تتشبع به عيونك ويُتخم به وعيك كل يوم من محتوى مؤلم عن محيطك المشتعل لهو كفيل، إذا استسلمت له بالتفاعل الكامل، بأن يحطم معنوياتك تمامًا، وأن ينهش روحك نهشًا، وأن يكسرك دون أي رحمة، وأن يملأك بالخوف والكآبة والأسى، وأن يطرحك أرضًا دون نزال، وأن يهزمك قبل أي معركة.. وهذا صميم ما يريد لك عدوك.. فإن انصعت فقد خسرت الحرب من قبل أن تحارب.
أنت لست ببعيد، يا صاحبي، عما يجري في محيطك، فانظر لما يجري حولك من أجل أن تفهم، لا من أجل أن تنسحق بالكآبة وتكتسي بالهم وتزدحم بالهزائم، واعلم أن روحك المعنوية هي أول حصونك وأخطر ثغور وطنك.. وافهم أن لك يومًا قد يأتي كما جاء على غيرك، فاستعد له بما استطعت من وعي وعلم وقوة.. وإياك أن تهِن.. وإياك أن تحزن.