قبل 4 سنوات تلقيتُ رسالة على واتساب من ابني الشاب، مساء يوم 21 يونيو، يخبرني بأنه فوجئ توًّا بأن هناك مناسبة اسمها «عيد الأب»، وأنها تُصادف ذلك اليوم، فأراد أن يهنئني بها، وأن يضيف إليَّ أيضًا معلومة جديدة، مرجحًا أنني لا أعرفها.
شكرته، وابتسمت، وتشككتُ في داخلي أنه يريد من وراء ستار التهنئة أن يطلب شيئًا مني، لكنه - للأمانة- لم يفعل، كما أنه أيضًا لم يكرر الأمر!
لا أغضب أو أحزن بسبب عدم تلقي التهاني في «عيدي»، بل إنني لا أتذكر المناسبة من الأصل إلا إذا صادفتني كتابة عنها على فيسبوك، فتستعيد ذاكرتي بالتالي رسالة ابني في 2021 وتهنئة ابنتي بعدها -لا شك أنه أخبرها بالمعلومة وقتها- وأقول لنفسي إن الأحداث الكبرى مثل «عيد الأب» لا تتكرر إلا نادرًا.. ألا ترى أن بطولة كأس العالم في كرة القدم تقام مرة واحدة كل أربع سنوات؟! وعندئذ أجلس سعيدًا مبتسمًا.. بابتسامة بلهاء!
ابتسم أنت الآن أيضًا.. ولا تظنن أن هناك ذرة من شكوى أو مظلومية في السطور السابقة.. فللمظلومية أهلها!.. لو كنتُ الآن أكتب على فيسبوك لوضعتُ علامة غمزة العين الشهيرة بعد العبارة الأخيرة.. لكن تكفي علامة التعجب.. أنتَ تفهم القصد.
ما علينا.. المهم أنني هذا العام قررت أن أبحث في المسألة، كي أعرف من أين جاءت أصلًا هذه المناسبة، خاصة أن بداخلي كلامًا كثيرًا عنها.. في الفم ماء وأفكار وضحك!.
بحثتُ وكانت الفاجعة، وجدتُ أن «عيد الأب» في الأساس مناسبة تائهة، متفرقٌ دمها بين أحداث وأسماء ودول. يا للوجع!. ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، نصير المظلومين.. ها قد أصابتنا عدوى المظلومية.. المهم؛ تابع القراءة من فضلك واحكم بنفسك.
سوف يظهر في كل الروايات المتباينة اسم فتاة أمريكية هي «سونورا سمارت دود»، أطلقت الفكرة عام 1910، للاحتفاء بأبيها الذي قام بتربيتها وأشقائها الخمسة وحده بعد وفاة أمهم.. «ربنا يبارك لك يا سونورا يا بنتي»!
المشكلة أن الفتاة أرادت أن يكون يوم 5 يونيو الموافق لعيد ميلاد والدها هو «عيد الأب» العالمي، لكن الوقت كان ضيقًا أمام السلطات التي استجابت لفكرتها فتم تنظيم الاحتفال يوم الأحد 19 يونيو، وبعدها أصبح يجري كل عام في الأحد الثالث من الشهر.
لكن الأمر لم يكن سهلًا كما تظن، فالمسألة معقدة!، إذ كان لا بد أن يمر 62 عامًا كاملة حتى يوقع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1972 - تخيل!- قانونًا يقضي باعتبار «عيد الأب» مناسبة رسمية وعطلة وطنية.
وفي مصر، يطل أيضًا - خلال البحث- اسم الكاتب الكبير الراحل مصطفى أمين الذي طالب في مقال بجريدة «أخبار اليوم» عام 1985 بأن يكون للأب عيدٌ على غرار عيد الأم. وبعد مناقشات وشد وجذب، عاد ليقول إنه تلقى رسائل كثيرة من شُبان وشابات طالبوه بتغيير الموعد، لأن اليوم المحدد كان يقع في إجازة نصف السنة، التي يرتبطون خلالها غالبًا بالسفر في رحلات منتصف العام!
في ضوء هذا تم اعتبار يوم 12 يناير عيدًا للأب في مصر.. «ماشي.. كله كويس»، أو بكلمات الرجل الجميل الذي ظهر في مشهد واحد مع الفنان أحمد حلمي في فيلم «عسل أسود» في إحدى موائد الرحمن في رمضان: «أي حاجة.. رضا».
لكن.. لحظة!..12 يناير؟!.. من أين إذن جاء تاريخ 21 يونيو؟!.. هل عدنا إلى موعد العيد الأمريكي؟!.. أبدًا.. فالعالم يحتفل بالمناسبة - على استحياء- يوم الأحد الثالث من يونيو الذي يختلف تاريخه كل سنة.. ألم أقل لك إن المسألة معقدة؟!
الحكاية أن الإخوة اللبنانيين حددوا تاريخ 21 يونيو موعدًا للاحتفال بعيد الأب، وأقر الدستور اللبناني هذا اليوم، وهو ما دفع موقع جوجل في 2016 إلى اعتبار اليوم عيدًا للأب في الشرق الأوسط والدول العربية.. وهكذا سار الأمر.
لا شك أنك أرهقت. لماذا كل هذا التعقيد حتى يكون للأب عيد؟!. والسؤال هنا ليس ساخرًا إنما هو بالفعل جاد، فالحقيقة أن الأب لا ينتظر - أو يتذكر- موعدًا للاحتفال به، ولا نقصد بهذا سجالًا مع الأمهات، اللاتي يستحققن بالطبع كل احتفاء.. «يعني مافيش هنا تسقيط».. إنما
ربما هو اختلاف الطبيعة.. كيف؟!.
للكاتب المحترم عمر طاهر عبارة مهمة عن الفرق بين الأمومة والأبوة، وهي أن الأولى فطرية أما الثانية فمكتسبة. صحيح. العبارة دقيقة وحقيقية؛ فالأب الذي يفاجأ - ويشعر «بالخضَّة»- عندما يُرزق بطفله الأول يكتسب مع الوقت مهارات الأبوة، يتعلمها، حتى يجيدها شيئًا فشيئًا، فينغمس فيها وينسى نفسه، ويصبح عيده كل يوم بنجاح أبنائه في الدنيا. نتحدث هنا بالطبع عن الآباء الحقيقيين، وكم من رجال أنانيين لا يرون إلا أنفسهم.
الأب الحقيقي يتنفس إنكارًا للذات، لذا فهو يبدو كجندي مجهول، لا يظهر دوره إلا برحيله، فتجد الابن عندئذ يشعر بنفس مفاجأة أبيه الأولى عند ولادته، يقف ذاهلًا، ويقول: ظهري انكسر!
لا لا.. دعنا الآن من الدموع والألم.. أطال الله أعمار كل الآباء والأمهات.. واضحك لهذه الكلمات، التي كتبها على فيسبوك الكاتب الصحفي الزميل محمد عدوي: «العيال جابوا لك إيه في عيد الأب؟.. جابوا لي فواتير النت وكارت الكهربا وطلبات السوبر ماركت».
لا بأس. نحن نحب هذا ونسعد به. ويكفي أن 21 يونيو هو الموافق أيضًا لليوم العالمي للموسيقى.. جرب أن تنتزع الموسيقى من أي أغنية مهما تكن روعة الكلمات، ثم انظر كيف يكون الأمر.. افهمها لوحدك!