بعد تصعيد غير مسبوق في حرب الـ12 يومًا بين إسرائيل وإيران، فقد أُعلن رسميًا وقف إطلاق النار بين طهران وتل أبيب، وبينما ادعت الأطراف انتصارها كل بطريقته، إلا أن المرحلة الأصعب بدأت لتوها.
والآن تبدأ مرحلة جني الأرباح، وتحديد حجم الخسائر، وهل سوف يستمر البرنامج النووي الإيراني، وبأي شروط، وسلوك طهران على الساحة الإقليمية. ولعل ما يهمنا هو شكل العلاقة العربية - الإيرانية.
فقد ظلت إيران "المدينة البعيدة"، والغريبة لسنوات طوال عن محيطها العربي، وظلت العلاقات مضطربة أيام الشاه، وخلال سنوات التوترات والمواجهات مع نظام الثورة الإسلامية، وتمكن الغرب وإسرائيل من إثارة الشكوك والمخاوف بين الطرفين، إلا أن الطرفين تمكنا من "المصالحة والتعايش"، وأدركا أن الأفضل تجنب "الثمن الباهظ" لخلافاتهما، ووسط هذا كله ظلت مصر تراهن على عودة العلاقات بصورة طبيعية بين إيران والدول العربية.
ولقد اختبرت الحرب الحالية مدى تماسك التعايش، وخاصة بعد الضربة الإيرانية لقاعدة العديد في الدوحة، رغم إبلاغ طهران لكل من قطر والولايات المتحدة، بعزمها على الضرب، وجرى إخلاء القاعدة قبل يومين أو أكثر.
ويشير الخبراء إلى أن الصواريخ كانت من النوع الذي يسهل اعتراضه، وربما في سياق وقف الحرب، ويمكن القول إن علاقات إيران بمحيطها العربي سوف تتمكن من تجاوز ركام الحرب المدمرة، وسوف يحاول الطرفان تسوية هذه الأزمة الكبرى.
ولا يخفى على أحد أن الدول العربية كانت تراقب عن كثب تطورات الحرب، وتحاول جاهدة احتواء الصراع، والخروج بسرعة من دائرة التدمير، وعدم الدخول في حرب استنزاف طويلة الأمد، ولا إغراق إيران في الفوضى من خلال إسقاط النظام.
والأرجح أن العواصم العربية تدرك أن كل هذه السيناريوهات كانت تعني خسارة عربية مؤكدة، وتسمح بإطلاق العنان "لعربدة إسرائيلية"، وزيادة أطماع دولة الاحتلال في التوسع، ومهاجمة أي قوة بالمنطقة ترى أنها من المحتمل أن تشكل خطرًا عليها.
ومن اللافت أن تعلن إسرائيل أنها باتت "دولة عظمى" بعد هذه الحرب، وتدرك النخبة العربية أن المسألة لم تنتهِ بعد الضربة الأمريكية، بل بدأت مرحلة أصعب من الصراع.
وأحسب أن هناك إجماعًا في الآراء على أنه رغم تدمير المواقع النووية الإيرانية، لكن إرادة طهران في الرد لم تتوقف، وقد تكون لهجة الرئيس ترامب المنتصرة - "فوردو ضاعت" - ذات وقع سياسي جيد، لكنها هونت من شأن خصم محنّك.
ويقول الخبراء الأمريكيون أن إيران تحملت الاغتيالات والعقوبات والهجمات الإلكترونية، وتحملت الحرب والعزلة، وما لن تفعله هو الاستسلام.
ووجدت طهران طريقًا ما بين "الخيار شمشون"، وهدم المعبد على رؤوس الجميع، وخيار "الاستسلام" بلا قيد أو شرط، والآن سوف يبذل قادة طهران جهدًا خارقًا، لإخراج إيران من الوضع الصعب عقب الحرب، وسوف تسعى الدول العربية لحماية طهران، وأن تكسبها لصالحها في معادلات القوة الجديدة بالمنطقة.
ويبدو أن الساعات الأخيرة قبل إعلان وقف إطلاق النار، توصلت واشنطن وتل أبيب لضرورة إنهاء الجولة الحالية من الحرب رغم ضجيج أحاديث النصر، واليقين بأن رد إيران مؤلم، ووفقًا لآراء الخبراء فإنها كانت ما بين التصعيد وتوسيع نطاق الحرب، أو حصرها في حرب استنزاف مريرة ضد إسرائيل.
ومن بين هذه الاحتمالات:
هجمات إقليمية على الأصول الأمريكية: من المرجح أن تستهدف إيران القواعد العسكرية والمواقع الدبلوماسية الأمريكية في العراق وسوريا ودول الخليج من خلال ميليشيات بالوكالة، وأي خسائر بشرية أمريكية قد تُجبِر على حرب أوسع نطاقًا.
تعطيل طرق نقل النفط: قد تحاول إيران إغلاق مضيق هرمز أو تهديده، وهو ممر رئيسي لنحو 20% من نفط العالم. وحتى تعطيل قصير قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة العالمية.
ضربات على حلفاء الولايات المتحدة: توقعوا هجمات صاروخية أو هجمات بالوكالة على السعودية والإمارات وقطر والبحرين، وإسرائيل.
تفجر حرب الظل: تشمل شبكة إيران العالمية من العملاء خلايا نائمة في أمريكا اللاتينية وأوروبا وربما الولايات المتحدة. وإذا كانت طهران تعتقد أنها ليس لديها الكثير لتخسره، فقد تكون الأهداف المدنية والبنية التحتية الإلكترونية في مرمى نيرانها.
هجمات إيرانية متواصلة في حرب استنزاف مريرة ضد إسرائيل.
الاكتفاء بما تحقق، والعودة للقنوات الدبلوماسية، وإبقاؤها مفتوحة، وذلك بهدف الوصول لحل تفاوضي.
وأحسب أننا شاهدنا تحقق اثنين من السيناريوهات، وهو هجوم رمزي على قاعدة أمريكية، والهجوم على إسرائيل. إلا أن المسافة ما زالت بعيدة نسبيًا عن نهاية الصراع، وبالتأكيد هذا ليس وقت الرضا عن النفس؛ سواء في واشنطن أو إسرائيل، بل هو وقت تفاوض مرير مع طرف يشعر بالحصار الخانق، وبالمظلومية، وبازدواجية المعايير، والإهانة.
ولم يعد السؤال الآن هو: هل كان على ترامب ألا يتدخل عسكريًا ويصبر في مسار التفاوض؟! والأرجح أن ترامب سوف يسأل سؤالًا مغايرًا سبق هو نفسه أن وجهه لمن سبقوه بالتورط في أفغانستان والعراق وحروب أمريكا التي لا نهاية لها، والآن أنصاره والعقلاء في واشنطن يقولون بصوت عالٍ: هل كان الأمر يستحق التكلفة؟! والأرجح لا، لأن التدخل العسكري ثبت فشله مرات ومرات، ولم يُخلف سوى الفوضى والخراب، وتمديد الصراع، ودوامة العنف لجولات "أكثر دموية" قادمة لا محالة.
ويبقى أن هجمات نتنياهو قد حققت مكاسب تكتيكية قصيرة المدى لإسرائيل، مثل تأخير طموحات إيران النووية، أو تعطيل مفاوضاتها مع واشنطن، لكنها تعد بكارثة استراتيجية طويلة المدى. ورغم ذلك كله يمكن لو صمد وقف القتال الآن، أن يفتح الطريق أمام حل تفاوضي لا نعرف شكله النهائي بعد.