اختارت الولايات المتحدة، في عهد إدارة ترامب الثانية، التصعيد مع إيران، متجاوزة لغة الدبلوماسية إلى منطق القوة والبطش. فضَّلت فوهة البندقية والطائرات الشبح والقنابل الخارقة للتحصينات على طاولة الحوار والتفاهم. لم يكن هذا الخيار مجرد قرار تكتيكي، بل تجسيدًا لعقيدة سياسية ترى في الهيمنة وسيلة لضبط الإقليم، وفي إخضاع الخصوم طريقًا إلى الأمن، ولو على حساب الاستقرار العالمي ومصائر الأجيال المقبلة التي ستدفع، مجبرة، فاتورة اندفاعات واشنطن غير المحسوبة.
لقد استند هذا التوجه إلى إرث طويل من التدخلات الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث غُلبت المصالح على المبادئ، والقوة على القانون الدولي. وتحت تأثير "غرور القوة"، توهمت إدارة ترامب أنها تكتب السطر الأخير في ملف البرنامج النووي الإيراني، متجاهلة تعقيداته وتشابك أبعاده الإقليمية والدولية، ومعتقدة أن بإمكانها فرض منطقها الأحادي على الآخرين، وتخييرهم بين أمرين: الاستسلام غير المشروط أو المأساة.
وفي هذا السياق، مُنحت إسرائيل - الحليف الأقرب والأداة الأكثر فاعلية في الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية - دورًا متقدمًا في تنفيذ هذا التصور. وكان الهدف واضحًا وضوح الشمس، وهو جعلها القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، لا تُزاحمها طهران أو غيرها، وأن تبقى المفاتيح بيدها ومرهونة بمخططاتها. وهكذا، رُوج لوهم أن إزالة الخصوم، أيًا كانوا، كفيل بترسيخ الأمن، متناسين أن الأمن القسري لا يدوم، وأن ما يُزرع بالقوة يُثمر مقاومة ممتدة.
لكن ما غفلت عنه هذه المقاربة هو أن التاريخ علم شعوب المنطقة أن الضغوط الخارجية تُنتج تطرفًا لا حلولًا، وأن تغييب الحوار يولد أزمات مستعصية. فكلما حاولت قوة فرض إرادتها على الشرق الأوسط قسرًا، عاد الإقليم ليُثبت أنه أكثر تعقيدًا من أن يُختزل بثنائية الأبيض والأسود، وأكثر مقاومة من أن يُطوَّع بخطاب الهيمنة.
ويبدو أن الدوائر المحيطة بترامب، والذين يقدمون له المشورة والنصيحة، غفلوا عن حزمة من الحقائق التاريخية الثابتة. فقد سبق للولايات المتحدة خداع الجميع على الساحة الدولية عبر نشر معلومات كاذبة لا تمت للواقع بصلة حول القدرات النووية للعراق في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وكلنا نتذكر اللقطة الشهيرة لوزير خارجية أمريكا آنذاك، كولين باول، وهو يدلي بشهادته أمام مجلس الأمن، مقدمًا أكاذيب بُني عليها غزو العراق وما تلا ذلك من مآسٍ بدأت بهدم ركائز الدولة الوطنية والجيش الوطني، وانتهت بظهور تنظيم داعش الإرهابي الذي لا يزال العالم يعاني ويتكبد خسائر فادحة في أمن واستقرار دوله جراء عملياته الانتحارية وسيطرته على مناطق في العراق وسوريا، وتمدده ناحية القارة الإفريقية.
وفي تجربتها بالعراق، لجأت أمريكا لأشخاص تربوا في كنف أحضان أجهزة مخابراتها، متصورة أنهم سوف ينجحون في قيادة بلاد الرافدين وتحويلها إلى حليف موثوق لها ومأمون الجانب، لكنها اكتشفت بعد فوات الأوان أنها بنت أحلامها وتصوراتها على قصور من رمال، تهاوت بأسرع مما تتصور.
وكررت التجربة ذاتها في أفغانستان، وأنفقت هناك مليارات الدولارات، مستعينة أيضًا بشخصيات أفغانية تابعة لها، وحاربت حركة طالبان لسنوات متعاقبة، ثم لم تجد بُدًا من التفاوض معها على صفقة تقضي بخروج القوات الأمريكية، تاركة وراءها أسلحة وعتادًا عسكريًا بمليارات الدولارات.
وها هي تسير في نفس الاتجاه، بتلميع نجل شاه إيران الراحل، رضا بهلوي، بصفته البديل المقبول غربيًا ليحل محل النظام الإيراني القائم، والذي تُطالب برحيله من المشهد. وكأنها لم تستوعب دروس الماضي والحاضر كافة. فالمنطق الأمريكي واحد ولم يتغير، ولا أمل في تغييره في القريب العاجل.