بداية عصر "الطب الشخصي"!

23-6-2025 | 12:54

في خطوة تاريخية تُمهّد لتحوّل جذري في نظام الرعاية الصحية.. أعلنت الحكومة البريطانية عن خطة طموحة تمتد لعقدٍ من الزمان تقضي بإخضاع كل طفل يُولد في بريطانيا لاختبار الحمض النووي "DNA" ضمن مشروع شامل للطب الوقائي، في محاولة طموحة لتغيير شكل الرعاية الصحية جذريًا.

والهدف بالطبع معرفة الأمراض التي قد تصيب الإنسان، خاصة الاضطرابات الوراثية المحتملة، قبل أن تبدأ أعراضها، بل وقبل أن يبلغ الطفل عامه الأول!.

قد يبدو هذا الأمر للوهلة الأولى ضربًا من الخيال، لكنه اليوم واقع تقوده ثورة علمية تحت اسم "الطب الشخصي"، فهل يعني هذا أننا نقترب من نهاية الأمراض المزمنة؟ وهل سيغيّر هذا المشروع علاقة الإنسان بجسده وبالمرض؟ وما انعكاسات هذا التوجه على المرضى، خصوصًا كبار السن؟

الحمض النووي هو باختصار "كتاب الحياة"، إنه المادة الوراثية التي تحمل داخلها "تعليمات الحياة"؛ من لون العيون إلى الاستعداد للإصابة بالسرطان أو ألزهايمر.

وتسلسل الجينوم، وهو قراءة هذه التعليمات حرفًا بحرف، يُتيح للأطباء فهْم خريطة المريض الجينية بدقة مذهلة، ما يساعد على التنبؤ بالأمراض وتفصيل العلاج خصيصًا له.

وبخلاف الطب التقليدي الذي يقدّم علاجات موحدة لكل الناس، وقد يشفي البعض ولا تتوقف معاناة الآخرين، يسعى الطب الشخصي إلى تصميم خطط علاج ووقاية فريدة لكل فرد حسب جيناته. 

وهذا يعني الكشف المبكر عن أمراض مثل السكر وأمراض القلب وبعض أنواع السرطان. 

واختيار الأدوية الأنسب لتقليل الأعراض الجانبية، وتحسين نمط الحياة بناءً على التكوين الوراثي لكل شخص.

ينبغي التأكيد أن هذا التوجه لا يلغي الطب التقليدي، لكن يطوره، ويجعله أكثر إنسانية وفعالية.

هذه الخطوة تُعد طفرة طبية حقيقية تُمهّد الطريق نحو عصر يُعرف فيه المرض قبل أن يظهر.

ولطالما كان المرض مفاجئًا في حياة الإنسان. 


لكن مع هذه التقنية، يتحول المرض من "حدث طارئ" إلى "احتمال محسوب"؛ سيكون المريض معه أكثر وعيًا واستعدادًا، مما يعزز ثقافته الصحية ويجعله شريكًا فاعلًا في الوقاية في ظل نظام صحي أكثر فاعلية.

ويبرز التساؤل.. هل لكبار السن نصيب من هذه الثورة؟ رغم أن المشروع يستهدف المواليد الجدد، فإن فوائده تمتد لكبار السن أيضًا، فالفحص الجيني يمكن أن يُستخدم لتفسير الأمراض المزمنة لديهم، ويساعدهم في اختيار أدوية أكثر ملاءمة وتجنب التداخلات الدوائية، ويوفر معلومات قيمة لأبنائهم وأحفادهم حول التاريخ الوراثي للعائلة. 

باختصار، هذه الثورة تخصّ الجميع، لا الشباب وحدهم.

ومن المؤكد أن تسلسل الجينوم على نطاق واسع سيؤدي إلى تغييرات عميقة؛ من العلاج إلى الوقاية، حيث يتم تقليل الإصابات بالأمراض المزمنة، وخفض التكاليف طويلة المدى، وبالتالى خفض الإنفاق على العلاج المتأخر.

لكن، بالتأكيد لكل تقنية جديدة مخاوف، خاصة في ظل زحف عنصرية الغرب بلا رحمة نحو كل ما هو آخر.. يتصدر هذه المخاوف انتهاك الخصوصية، إذ إن تخزين معلومات جينية حساسة يثير تساؤلات حول من يملك الحق في الوصول إليها. 

والأكثر خطورة هو أن تفتح هذه التقنية بابًا واسعًا للتمييز الجيني؛ فمن يضمن ألا تُستخدم هذه المعلومات ضد الأفراد في التأمين أو التوظيف.

يضاف إلى ذلك أن هناك تحديات أخلاقية واجتماعية، لعل أبرزها  القلق النفسي، فمجرد معرفة أن الطفل قد يصاب بمرض خطير في المستقبل قد تُسبب ضغطًا نفسيًا كبيرًا على الأهل، وبالتالي تضطرب حركة الحياة، إن لم يكن العلاج متاحًا جذريًا..

ورغم كل التحفظات تظل هذه خطوة مهمة نحو المستقبل، بل هو أحد أركان طب المستقبل؛ ففي السنوات القادمة، سيصبح من الطبيعي أن يُطلب منك "تحليل جيني" لتحديد خطة علاج أو نظام غذائي، والأطباء سيتدربون ليس فقط على الأمراض، بل على علم الوراثة، وبدلًا من "دواء واحد للجميع"، سننتقل إلى "دواء مُخصص لكل مريض".

يبقى السؤال: هل نحن مستعدون لطب يعرف أمراضنا قبل أن نمرض؟ إنها بداية جديدة لرحلة صحية تبدأ من الجين... لا من أعراض المرض.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: