في يوم 30 مايو الماضي، حلت الذكرى الـ 69 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وجمهورية الصين الشعبية، لتصبح المحروسة أول دولة في إفريقيا والوطن العربي تقيم علاقات مع الصين الجديدة، بما صاحب هذه المبادرة من معان عميقة.
إحياء لتلك المناسبة العطرة، اخترت أن أقدم زاوية احتفالية مختلفة، تظهر مدى عراقة العلاقات التاريخية بين مصر والصين، باعتبارهما حضارتين قديمتين في العالم، وأيضا، في ضوء انفرادهما في تصدر قائمة المخترعين لصناعة الورق.
تلقيت دراسة قيمة وقد جاءت في وقتها، بعنوان "السفير.. وصناعة الورق بمصر والصين" أرسلها لي كاتبها الصيني، شين جه، تتناول-بإسهاب-سلسلة الاختراعات العظيمة للبشرية منذ الأزل، وتحديدا، صاحب الفضل الأول في صناعة الورق.
قبل عرض أهم ما جاء في الدراسة المترجمة من اللغة الصينية إلى العربية، جدير بالتنويه إلى أن مؤلفها هو نفسه الكاتب، شين جه، الذي سبق ووقع اختياره على "بوابة الأهرام" الغراء في الانفراد بنشر بحث مماثل في شهر مارس الماضي، بعنوان "شيا ناي رائد علم الأثار، وجهوده في إحياء الخرز المصري القديم".
بداية، تشير الدراسة إلى أن الاختراعات الأربعة العظيمة للصين القديمة -التي ذكرها المؤرخ البريطاني للعلوم والتكنولوجيا جوزيف نيدهام-معروفة عالميا، وانتشرت على نطاق واسع، ولكنها -أيضًا- مليئة بالجدل في المجتمع الأكاديمي.
فاختراع البارود والبوصلة ليس مثيرًا للجدل، على عكس الطباعة وصناعة الورق، حيث يرى الكوريون بأنهم من اخترعوا الطباعة، ويعتقد كثير من الناس بأن المصريين القدماء هم من اخترعوا صناعة الورق، ولكن الحقيقة التاريخية –وفقا لما جاء في دراسة الباحث شين جه- هي أن الطباعة الخشبية من اختراع الهنود، والطباعة بالحروف المتحركة هي أول اختراعات الصينيين. وفي الوقت نفسه الذي اخترع فيه الصينيون الطباعة بالحروف المتحركة المصنوعة من الرصاص والزنك، اخترع الكوريون الطباعة بالحروف المتحركة المصنوعة من النحاس.
بالنسبة لصناعة الورق، فإن الخلاف يظل حول ماهية الورق، فقد كان المصريون القدماء هم أول من اخترع ورق البردي، وكان الصينيون أول من اخترع لب الورق، ويعرف ورق البردي باللغة الإنجليزية (Papyrus)، وبالنسبة للغرب، ورق البردي هو أقدم ورق.
وقد اخترع قدماء المصريين ورق البردي باستخدام ألياف نباتية واحدة كمادة خام، واخترع الصينيون لب الورق بمجموعة متنوعة من الألياف المختلطة كمادة خام، لكن البردي لا علاقة له بصناعة الورق في العصر الحديث، أما لب الورق فيسير في الخطى نفسها مع طرق صناعة الورق الحديثة.
بالتالي، فإن ورق البردي هو أحد المساهمات التي قدمها المصريون القدماء للحضارة الإنسانية، فهو أقدم مادة للكتابة وأكثرها ملاءمة في التاريخ، باعتباره أقدم وأسهل استخداماً من "زلات" الخيزران والزلات الخشبية في الصين القديمة.
توضح الدراسة أنه منذ 4000 سنة، اخترع قدماء المصريين-الأذكياء والحكماء- صناعة ورق البردي، كان الورق المصنوع من البردي هو المادة الرئيسية للكتابة في ذلك الوقت، ويجرى إثبات هذه الحقيقة من خلال وثائق ورق البردي المختلفة والرسومات المعروضة في المتحف المصري.
وفي العصور القديمة عندما كانت صناعة الورق متراجعة للغاية، كانت أوراق البردي المصرية سلعة تصديرية مهمة لقدماء المصريين، تحديدا لشعوب قارة أوروبا القديمة، والتي استمرت 3000 عام، وإن حدث -مع الأسف الشديد- اختفاء أوراق البردي في القرن التاسع الميلادي.
يُصنع ورق البردي من نبات أخضر، ينمو بشكل رئيسي في مستنقعات دلتا النيل، ويصل ارتفاعه إلى أكثر من مترين، ويمكن استخدام الجذع كأقلام، ولب الجذع في صناعة الورق، والجذر كوقود، ونال ورق البردي اهتماما شديدا من قدماء المصريين، وفي العصور اللاحقة جرى تنظيف ضفاف نهر النيل عدة مرات ولم تعد أوراق البردي تنمو، ويقال إن هذا هو السبب الرئيسي وراء اختفاء ورق البردي.
نظرًا لأنه كان من المستحيل العثور على معلومات حول عملية صناعة الورق المصرية القديمة، فقد اختفت التقنية لأكثر من ألف عام، وحاول الكثيرون استئناف إنتاج ورق البردي، وعلى الرغم من وجود عدد لا يحصى له من أوراق البردي التي اكتشفها الأثريون، لكن لا يوجد سجل حول عملية الإنتاج. لذلك، أصبحت صناعة ورق البردي لغزا يصعب تفسيره بالنسبة للمصريين لسنوات عديدة.
تنتهي الدراسة الصينية بالإشارة إلى أن هناك من حل هذا اللغز -بحكمته وعمله الجاد- وهو السفير حسن رجب الذي أعاد إحياء ورق البردي، وعمل كأول سفير لمصر بالصين، إضافة لمهامه في إيطاليا ويوغوسلافيا من 1956 إلى 1961.
بالإضافة إلى مراقبة تقنية صناعة الورق في ورش العمل بالصين، قام السفير حسن رجب بزيارة مسقط رأس "تساي لون" الذي اخترع "ورق تساي خو" الصيني، خلال عهد أسرة خان الشرقية قبل 2000 عام، وحظي بلقب صاحب صناعة الورق الصيني، مما شجع حسن رجب ليصبح "تساي لون" المصري.
عقب انتهاء مهمة حسن رجب كسفير، عاد إلى مصر، وبدأ في استكشاف عملية إعادة إحياء ورق البردي، وسعى للحصول على الإلهام من خلال تقنية صناعة الورق الصينية، وبعد التغلب على العديد من الصعوبات، اكتشف التقنية التي فقدت منذ آلاف السنين وأصبح -بامتياز- صاحب إعادة إحياء ورق البردي، وبات متفردا في عرض إنتاج ورق البردي بمعرض خاص على ضفاف نيل القاهرة، مما يجذب الزوار من جميع أنحاء العالم، كما أصبح نافذة أخرى على حضارة مصر القديمة.
[email protected]