رحلة في أدب نجيب محفوظ.. قراءة تحليلية لواحدة من أكثر قصصه غموضًا

21-6-2025 | 12:02
رحلة في أدب نجيب محفوظ قراءة تحليلية لواحدة من أكثر قصصه غموضًانجيب محفوظ
بقلم - أحمد حسين قنديل

أولاً: القصة كما رواها البطل

موضوعات مقترحة
البطل، موظف بإحدى المؤسسات، تجمعه علاقة غرامية مع زميلته المتزوجة من مقاول ثري. في أحد الأيام، يزورها في شقتها حاملاً معه علبة شيكولاتة وزجاجة كونياك. وبينما هما معًا، يرن جرس الباب. تقلق العشيقة، لكنها تطمئنه أن الزوج في سفر : "لعله الكوّاء"، وتقترح عليه، كإجراء احترازي، أن يختبئ تحت السرير.

يدخل الحجرة رجل يرتدي حذاءً بنيًّا بسطح أبيض، ثم يغادر ويغلق الباب. لكن الصمت يخيّم بعدها على المكان. لا حركة، ولا صوت، ولا همسة. يخرج الراوي من تحت السرير فيجد عشيقته جثة هامدة. يهرب في ذعر، تاركًا وراءه الشيكولاتة والكونياك، دليلين كفيلين بربط اسمه بالجريمة.

خوفًا من الاتهام، يبدأ رحلة بحث محمومة عن صاحب الحذاء. يقابل البواب، فيلاحظ أنه يرتدي حذاءً مشابهاً، يسأله عنه فيشير إلى إسكافي معروف في الحي. يزوره الراوي، ويتقصى زبائنه، بل ويزور أحدهم، دون أن يجد ضالته. في النهاية، يشتري آلة كاتبة ويكتب روايةً "صادقة" عن كل ما جرى، ويرسلها دون توقيع إلى الشرطة.

لكن الشرطة تفتّش منزله، كما فتّشت منازل زملائه، بحثًا عن الآلة الكاتبة. وبعد العثور عليها، يُخبر بأنه سيُعرض على صاحب محل الخمور والشيكولاتة للتعرف عليه. يخبر الضابط أن كل ما كتبه في الرسالة حقيقي. فيجيبه الضابط بابتسامة غامضة: "أعجبني خيالك". وحين يسأله: "هل ستتركون المجرم الحقيقي؟" يرد الضابط بثقه: "لم يبقَ إلا أنت".

ثانياً: القصة الحقيقية كما جرت
من يتبنى وجهة نظر الراوي قد يصدق براءته، لكن محفوظ يزرع في قصه الراوي إشارات خفية، صغيرة لكنها دامغة، تكشف أن البطل هو القاتل، وأن ما يرويه ليس سوى نسخة "معدّلة" من الواقع، صنعها عقله للهروب من الحقيقة:

- العلاقة بينه وبين عشيقته كانت متوترة: يحبها ويحتقر انتهازيتها. ربما هذا التناقض قد انفجر في لحظة ضعف أو غضب أثناء لقائهما.
- خلال اللقاءات، كانت تطلب منه بدلال أن "يخنقها" — ما قد يشير إلى لعبة حميمية تطورت إلى فعل عنيف فقد خلاله السيطرة.
- في لحظة استبطان، يقول لنفسه: "نجاتك مرهونة بخيالك"، جملة تبدو عابرة لكنها تفضح البنية الخيالية للنص الذي نقرأه.
- لكن الدليل الدامغ في روايته نفسها كانت عندما نظر بإعجاب الي حذاءه البني ذا السطح الأبيض، وهو وصف مطابق تمامًا لحذاء القاتل الذي شاهده تحت السرير والذي يحاول مطاردته — ما يوحي أن "القاتل" لم يكن سوى نفسه.
- أخيرا روايته بها تناقضات في زيارة الإسكافي، تشير إلى ارتباك زمني واضطراب في تماسك الأحداث — كما لو أن ذاكرته تعيد ترتيب المشاهد بما يخدم الرواية البديلة.


أحمد حسين قنديل

ثالثاً: التحليل النفسي للراوي – القاتل في حالة إنكار
ما فعله نجيب محفوظ في "تحقيق" يتجاوز الحبكة البوليسية الذكية، إلى غوصٍ نفسي مرعب. البطل لا يكذب عمدًا، بل يعيش حالة إنكار متقدمة. لقد ارتكب الجريمة، لكنه لم يحتمل الاعتراف حتى لنفسه، فاختلق رواية بديلة، ودوّنها كمن ينقذ نفسه من الغرق.

الكتابة هنا لم تكن فقط وسيلة للدفاع، بل آلية للبقاء. وعندما يقول له الضابط "أعجبني خيالك"، فهو لا يسخر فحسب، بل إنه أدرك أن كل ما كتبه كان رواية بديلة عن الرواية الحقيقية.

الجريمة، إذن، لم تكن فقط خنق امرأة، بل خنق الذات الأصلية، واستبدالها بذات متوهمة: راوٍ بريء، يطارد قاتلاً غامضًا، بينما القاتل الحقيقي لا يحتاج إلى مطاردة — لأنه ينظر إليه كل صباح في المرآة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة