ثلاثية الداء والدواء

21-6-2025 | 10:48

لا أعرف كيف أبدأ هذا الحديث، ولا كيف أنهيه، لأن ما أراه اليوم يذهل العقل ويخزي الضمير. نحن أمة كانت تعلم العالم معنى الحضارة، فصرنا نعلمه معنى الفوضى. كأن التاريخ يعبث بنا، أو كأننا نعبث به، فلا هو يرحمنا، ولا نحن نرحم أنفسنا.

منذ عامين، أو ربما أكثر، وأنا أتساءل: أين العقل الذي بنى الأندلس والقاهرة وبغداد؟ وأين القلب الذي كان يخفق بالرحمة حين كان الغرب يغوص في ظلمات القرون الوسطى؟ لقد صرنا نشاهد، كل يوم، مشاهد تذكرنا بأسوأ ما في التاريخ، بل تضيف إليه ما لم يعرفه من قبله. جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، دماء تراق كالماء، وأرواح تزهق كأنها لا تساوي شيئا.

أين الخطأ؟
لا يمكنني أن أقول إن هذا كله خطأ، لأن الخطأ قد يكون غير مقصود، أما ما نراه اليوم فهو مقصود ومخطط له. بعضنا يقتل بعضا، وبعضنا يبرر للبعض القتل، وكأن الدين الذي جاء ليكرم الإنسان صار أداة لتحقيره. 

أين الفقهاء؟ أين المفكرون؟ أين الحكام؟ كل هؤلاء يبدو أنهم تاهوا في متاهات المصالح، فنسوا أن المصالح الحقيقية هي في العدل والحكمة، لا في القوة والبطش.

لقد قالوا لنا إن هذه حروب مذهبية، أو سياسية، أو اقتصادية، وأنا أقول إنها حروب ضد العقل نفسه. لأن العقل هو أول ضحايا الفوضى.

ماذا بقي لنا؟
بقي لنا السؤال الأهم: هل نستحق النور بعد أن أطفأنا مصابيح الحضارة بأيدينا؟ التاريخ لا يرحم، والحضارة لا تنتظر، فإما أن نصحو من سباتنا، وإما أن ندفن تحت أنقاض ما دمرناه.

إني لا أطلب المستحيل، بل أطلب المستطاع: أن نعترف بأننا مرضى، وأن نبحث عن الدواء. الدواء هو العدل، هو العلم، هو احترام الإنسان. 

فمتى نبدأ؟
إن الأمم لا تموت بالغزوات، بل تموت عندما تفقد إرادة الحياة. فهل فقدناها؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يقلق كل واحد منا.

المرض أعمق من الأعراض
لا يكفي أن ننظر إلى الدماء التي تسيل، أو إلى الدور التي تهدم، أو إلى الأجساد التي تذبح كالخراف في وضح النهار. لا يكفي أن نحصي الجرائم، بل يجب أن نسأل: ما الذي أوصلنا إلى هذا؟

إن المرض في جذورنا، في عقولنا التي توقفت عن السؤال، في قلوبنا التي قست حتى صارت أقسى من الصخر. لقد صدق من قال إننا صرنا أمة لا تقرأ، لا تفكر، لا تنتقد ذاتها. نشكو من الظلام، ونحن من أطفأنا المصابيح.

أين حرية الفكر التي جعلت أجدادنا أسياد العالم؟ أين التسامح الذي جعل المساجد والكنائس تتعانق في ظل دولة الإسلام؟ لقد استبدلنا ذلك كله بالتعصب الأعمى، والكراهية الساذجة، والتبعية الفكرية للغرب أو للتراث دون تمييز أو وعي.

الغرب ليس بريئا... ولكننا لا نبرئ أنفسنا!
سيقول قائل: إن الغرب هو من زرع الفتن بيننا، وهو من يغذي الحروب بأسلحته وأطماعه. وأنا أقول: نعم، هذا صحيح، ولكن أين عقلنا نحن؟ أين إرادتنا؟

لقد باع بعضنا وطنه بثمن بخس، ولبس بعضنا ثوب الدين ليخدع البسطاء، ورضي بعضنا بالتبعية الفكرية فصار يقلد الغرب في كل شيء حتى في عقده النفسية. نحن لا نصنع مصيرنا، بل ننتظر من يصنعه لنا.

كيف نضيء المصابيح من جديد؟
1. بالعقل أولا: لا خلاص لنا إلا بالعقل النقدي الذي يرفض الخرافة، ويبحث عن الحقيقة، ويفرق بين الدين والتقاليد البالية.

2. بالعدل ثانيا: لا حضارة بغير عدل. العدل بين الحاكم والمحكوم، العدل بين الرجل والمرأة، العدل بين الأديان والمذاهب.

3. بالعلم ثالثا: العلم نور، والجهل ظلام. لن ننهض إلا إذا جعلنا العلم دينا نعيش له ونموت من أجله.

4. بالوحدة رابعا: لا عز لنا إلا إذا توحدنا، ليس على أساس العرق أو الطائفة، بل على أساس المصير المشترك والقيم الإنسانية.

إن السفينة تغرق، والجميع يصرخ، ولكن لا أحد يحاول إصلاح الخلل. التاريخ لن يرحمنا إذا استمررنا في هذا النوم. فإما أن نستيقظ، وإما أن نكون منسيين في زوايا التاريخ كأمة لم تستحق الحياة.

لعل السؤال الأكثر إلحاحًا الذي يفرض نفسه الآن هو: هل ما زال في وسعنا أن نصحو من هذا الكابوس الذي صرنا نعيشه؟ أم أننا قد تجاوزنا نقطة اللاعودة؟  

ثلاثية الداء والدواء 
1. المرض العضوي: انهيار المنظومة الأخلاقية؛ لقد فقدنا البوصلة الأخلاقية التي كانت تميز حضارتنا. صرنا نرى الظلم فنسميه سياسة، ونرى التخلف فنسميه تقليدًا. لقد انقلبت المفاهيم حتى صار الجلاد بطلاً، والضحية خائناً.  
2. المرض الفكري: غياب المشروع الحضاري  
أين مشروعنا المعاصر الذي يجيب عن أسئلة العصر؟ لقد اكتفينا إما بالاجترار الببغائي للتراث، أو بالاستيراد الأعمى من الغرب. لم نعد ننتج فكرًا، إنما نستهلك فقط.  
3. المرض السياسي: ثقافة الاستبداد؛ منذ قرون ونحن نربي أجيالاً على الخنوع والاستسلام. لقد حولنا الدين إلى شعارات بدل أن يكون قوة الفكر والعقل.  

رغم كل هذا الظلام، ثمة علامات أمل: صحوة الشباب الواعي الذي بدأ يرفض الخرافة والاستبداد. ومبادرات إصلاحية هنا وهناك، وإن كانت لا تزال ضعيفة ومشتتة، بالإضافة إلي إعادة اكتشاف تراثنا الحضاري بمنهج نقدي بعيد عن التعصب.  

معضلة الزمن 
الوقت لا يعمل لصالحنا. كل يوم يمر ونحن غارقون في أوحال التخلف هو انتصار للفوضى والظلام. السؤال ليس: هل نستحق البقاء؟ بل هو: هل سنتحرك قبل فوات الأوان؟  

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: