حين أرسلت لي الصديقة المختارة أماني القصاص أولى تجلياتها الأدبية رواية "فتاة وبحيرتان"، لصحفية أتابعها في معظم المحافل الثقافية بحكم عملها واهتمامي بالفنون والثقافة، توقعت أن يكون العمل الأول رائعًا وليس مبهِرًا، مقتبسًا من بعض ما أتابعه، فأنا أقرأ حتى الإجهاد، وأشاهد حتى تلتقط عيناي قطرات غسول العيون، أنا كائن جمع المعارف، وهي كالحفرة، كلما أخذت زادت اتساعًا. يرافقني يقين أن الثقافة، رغم كثرة التعريفات، هي كل ما يتبقى لديك مما قرأت واحتفظت به بداخلك وينير بصيرتك.
موضوعات مقترحة
وبدأت قراءة العمل الأول للمبدعة أماني دون مبالغة، فأخذتني كعب داير بين بحيرة الطفولة والتكوين بدلتا مصر، ووجدتني بين صور أعرفها، فأنا من أرض البحيرة. واستعرضت الكاتبة البحيرة ونشاط الصيادين مستخدمةً مفردات من واقع الأرض والشخوص، فيقول الصياد لزوجته: "اجري اجري شهلي". هنا، من الصفحة الأولى، توقفت وأحضرت أوراقي لأُسجّل، ولا أعرف لماذا، ولكنه إحساس أنني أمام كاتبة تمتلك حرفية القاص، لكنها تذهب للغة الشخوص، وتلك قيمة أعرفها عند الكبار، أمثال مكسيم جوركي ويوسف إدريس ونجيب محفوظ. ولم أمتلك أي يقين بعد عن الست أماني، فهو أحيانًا سراب. وأكملت.
بعد الربع الأول من الرواية، تأكدت أنني أمام حالة أدبية إبداعية، وأخذتني الكاتبة لأعيش حياة بطلتها داخل بحيرة الدلتا وبحيرة جنيف، حين انتقلت نداء للعمل بجنيف وشاهدت البحيرة. وهنا تجلّت عبقرية رصد الفرق بين بحيرة الدلتا، والطيور فريسة، والسمك للاصطياد، والنساء خلف الرجال مفعول به – تلك علة وجودهن – والوجوه مستحية، تخشى الاقتراب من البحيرة بعد سفر الرجال، عليهن ممارسة الانتظار. وها هي تنطلق أمام بحيرة، انطلاق المياه من نافورة جنيف لتلامس عنان السماء. الطيور بجمالياتها تنطلق في أفق رحب تعانق السماء، لا تخشى صيد الشباك. النساء تجري منطلقة بلا عيون تلاحقها وتبحث عن تلاسن اعتادته نساء بحيرة الدلتا. إنه عالم الأبيض والرمادي، والإضاءة مصدرها القمر وأشعة الشمس، وإضاءة جنيف بجمالياتها الملوّنة الراقصة أحيانًا.
وتتعرّض الكاتبة بسرد أنثوي بارع، يمتلك من الإحساس فيضًا من معاناة بحيرة الدلتا، ورغبة جامحة للتعرّف على براح وجمال ورحابة لوحة إبداعية، محاطة بتماثيل البرونز المرتصة، تحاوطها جماليات الحدائق. وتعيش نداء بين قسوة ماضٍ به عنف تحاول تجاهله، وجمال حاضر بديع في الخارج، تخرج منه هربًا من وحدة فرضتها الغربة وعودتها للمنزل وحيدة. وهنا، دون إرادة، تسقط في شباك دكتور حسين، رئيس القسم معها بالجامعة. واستخدمت، بحساسية أنثى، أنها تطير فرحًا – من نفس بيئة البحيرة، بالدلتا – وارتمت تبحث عن فارس الأحلام مع البحيرة المرسومة بروعة الإبداع. تؤكد ذلك الكاتبة، قيمة البحث، ويقين مشاعر حب، فاختيار الاسم "نداء" أراه قد يكون استغاثة من هذا اليم، فقد انطلقت عاشقة لبراح ملوّن كان منه الحبيب، بلا تدقيق، وثقة قد تكون في شكل ومظهر ومنصب. إنه الحب. وعبرت، بعبقرية، عن حالة حين لا يرى الحبيب في المحبوب إلا كل بديع. وكما قال العملاق صلاح جاهين: "الحب يجعل الحياة بمبي، وتزدهر كل الزهور وتتوارى الأشواك". ولكن مع كائن الأصالة والمعاصرة نداء، تكتشف أنها لم ترتمِ في صدر فارس الأحلام، بل كان سارق الأحلام. وتدرك أن عليها الخلاص الصعب، وتذهب للدكتورة النفسية إليزابيث، فقد فشل الحبيب في ترميم صورة محطّمة كاذبة لذاته. وتحطمت الصورة أمام نداء وسقطت، وكان الحل العلمي هو التصالح مع المعطيات وما لديك. ونعرف أن الحياة قاسية، وما عليك إلا الحذر والاختيار، كما قال دكتور ستيفن كوفي، كاتب وصاحب كتاب "العادات السبع": "فما عليك إلا البحث في داخلك، ودراسة تفاصيل الأحداث، والتعرف على معطياتك من البحيرتين، استجمع قواك، وتعامل مع جماليات ما لديك، واخرج معافًى".
وقدّمت الطبيبة العلاج للتصالح والاتجاه للبحث بداخل نداء، فكتبت وسألت وأجابت، فنحن مجموع ما بداخلنا، وعلينا مواجهته. هنا قيمة مضافة تقدّمها الكاتبة بوعي، بقيمة رواسب تتركها ممارسات الحياة، وقد تأخذنا إلى المجهول.
تنتقل بنا الكاتبة بين عوالم وأحاسيس أنثى، وكأننا أمام بحر كبير تتلاطم أمواجه أمامنا، وأنا قابع داخل خلاط، أتابع وأشاهد ستائر من دانتيل تداعبها رياح البحر، وتلامسني أحيانًا، وتتركني أفكر في صراعات نداء، من عشق إلى ثوابت، إلى تباين بين ماضٍ يصطاد الطيور، وحاضر بديع لكنه مخترق من كائنات أكثر توحشًا: من صياد يبحث عن إطعام ذويه، إلى سارق أحلام – وهي الباقي عند الإنسان – في مجتمعات فقدت جماليات النفس البشرية. وأكّدته كل الأحداث حولنا، أن الحلم أصبح هناك من يستطيع سرقته.
هذا العمل تعاملت فيه الكاتبة بحرفية سينمائية، فكان المونتاج وترتيب الأحداث من عوامل الجذب الواعي. فأعتقد أن العمل يُقرأ مرة واحدة، فهو يمتلك رتمًا جذابًا وأسلوب سرد يستحق كل التقدير والاحترام والتفاؤل، أن مصر لا تنضب. فرغم أعمال أدبية ودراما، هي دائمًا حكاوي تستحق جلسات الأمهات، أو مسلسلات "الرغاوي الصباحية" كما يطلق عليها الأميركيون، فقد تفاءلت واستمتعت عقلًا، وكل أمنياتي أن أشاهد هذا العمل على الشاشات، فهو يستحق ويمثلنا كما نستحق.