لم يعد الصراع بين إيران وإسرائيل حبيس ساحات المعارك أو المواجهات العسكرية التقليدية، بل شمل قلب البنية التحتية الحيوية، ليطال شريانًا بالغ الحساسية: قطاع الطاقة.
ففي تصعيد نوعي، استهدفت الغارات الإسرائيلية منشآت نفطية وغازية رئيسية في إيران، ما فتح الباب واسعًا أمام تداعيات اقتصادية وجيوسياسية عميقة، في وقت تعيش فيه أسواق الطاقة العالمية حالة من الهشاشة والتوتر.
ضربات تطال القلب النابض للطاقة الإيرانية
جاء الاستهداف المباشر للمرحلة الرابعة عشرة من حقل "بارس الجنوبي" – أهم حقول الغاز الإيرانية – ليمثّل نقطة تحوّل، إذ تسبب في تعطل جزئي للإمدادات بما يعادل 424 مليون قدم مكعبة يوميًا. ويُعد هذا الحقل بمثابة العمود الفقري لاستهلاك الكهرباء والتدفئة في البلاد، حيث يغطي أكثر من 80% من الطلب المحلي، فضلًا عن دعمه لصادرات المكثفات النفطية التي تشكّل مصدرًا مهمًا للعملة الصعبة.
ولم يكن الأثر محصورًا في قطاع الغاز فقط؛ فقد طالت الهجمات الإسرائيلية الغاشمة أيضًا محطة "عسلوية" المرتبطة بالحقل، إلى جانب مصفاة "عبادان"، وهي الأكبر في البلاد، ما أدى إلى توقف إنتاج يناهز 400 ألف برميل يوميًا – أي نحو ربع القدرة التكريرية الإيرانية، وبذلك، لم يكن الهجوم استعراضًا عسكريًا بقدر ما كان ضربة مباشرة للبنية الاقتصادية لإيران.
اقتصاديات الحرب: من الميدان إلى المصافي
إن طبيعة الضربات تعكس تحولًا استراتيجيًا في أدوات الحرب، إذ باتت منشآت الطاقة هدفًا رئيسيًا لإضعاف البنية المالية لطهران. ويشكّل قطاع الطاقة أكثر من نصف إيرادات الموازنة العامة الإيرانية، ما يعني أن استهدافه لا يعرقل فقط صادرات النفط والغاز، بل يهدد أيضًا قدرة الدولة على توفير الكهرباء والتدفئة للسكان، ويضغط على الجبهة الداخلية سياسيًا واجتماعيًا.
يبدو أن الهدف يتجاوز مجرد الردع التكتيكي، ليصل إلى محاولة استنزاف اقتصادي ممنهج. فالإستراتيجية المعلنة هي منع إيران من تطوير سلاح نووي، بيد أن الإستراتيجية الصهيونية المطبّقة تسعى أيضًا لتقويض قدرة إيران اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية شاملة، ما ينذر بتغيرات طويلة الأمد في موازين القوى الإقليمية.
مضيق هرمز... رهان العالم الهش
في هذا السياق، يبرز مضيق هرمز كموقع بالغ الحساسية، إذ تمرّ عبره نحو 17 مليون برميل نفط يوميًا، ما يعادل قرابة خمس الإمدادات العالمية. إن أي تصعيد إضافي قد يدفع إيران إلى تعطيل هذا الممر الحيوي أو تهديد السفن التجارية والبنية التحتية لدول الجوار، الأمر الذي سيؤدي إلى قفزات دراماتيكية في أسعار النفط والغاز.
في ظل هذه الهشاشة، تبدو أسواق الطاقة كمن يمشي على حبل مشدود فوق هاوية من التوترات الجيوسياسية. وتبقى احتمالات زعزعة استقرار الإمدادات حاضرة بقوة، خاصة في ظل غياب أي ضمانات بعدم تفاقم الصراع وتمدده إلى جبهات جديدة في المنطقة.
البدائل والواقع الصعب
هذا الوضع يفرض على الدول المستوردة للوقود الأحفوري مراجعة إستراتيجياتها بمجال الطاقة، من خلال تسارع الجهود لتوقيع اتفاقات طاقة مع دول بديلة. كما يعود الحديث بقوة عن تسريع التحول نحو الطاقة المتجددة، غير أن هذه الحلول – رغم أهميتها الاستراتيجية – لا يمكن أن تحقق أمنًا فعليًا على المدى القصير، في ظل الاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري حتى اللحظة.
أمن الطاقة... من المفهوم إلى التهديد
أمن الطاقة في جوهره يعني ضمان توفير مصادر طاقة موثوقة، متاحة، وبأسعار عادلة، مع تنويع مصادر الإمداد والقدرة على التكيف مع الاضطرابات الطارئة. ويُعد هذا المفهوم إحدى ركائز الأمن القومي، لما له من تأثير مباشر على الاقتصاد، والاستثمار، والخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه.
ولضمان أمن الطاقة، لا بد من تنويع مصادر الطاقة، عبر الاستثمار الجاد في مصادر بديلة كالشمس والرياح والمياه، إلى جانب تحسين كفاءة استخدام الطاقة، وتقليل الهدر، وتعزيز التعاون الدولي لضمان استقرار الإمدادات وحماية البنية التحتية من التهديدات.
نهاية مفتوحة... وسوق على الحافة
في حين تراقب العواصم العالمية تطورات الصراع الإيراني–الإسرائيلي بعيون عسكرية أو سياسية، فإن البعد الاقتصادي، لا سيما في مجال الطاقة، قد يكون هو الأكثر تأثيرًا واستدامة. فنحن أمام حرب من نوع جديد، تقودها الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية، لكن ضحاياها أيضًا قد يكونون المستهلكين والأسواق والاقتصادات التي تعاني أصلًا من ارتباك سلاسل الإمداد وتعقيدات التحول في مجال الطاقة المتجددة.
إذا ما استمرت هذه الحرب غير التقليدية في التمدد إلى المنشآت الحيوية، فإن أمن الطاقة العالمي يقف على أعتاب أزمة وشيكة… أزمة قد لا تغيّر فقط موازين الشرق الأوسط، بل تعيد رسم خارطة الطاقة العالمية لعقود قادمة.