تشهد القارة الإفريقية، وتحديدًا منطقتي الساحل وغرب إفريقيا، تصاعدًا مستمرًا في الأنشطة الإرهابية التي تشكل تهديدًا كبيرًا للاستقرار الإقليمي والدولي، تعتبر هذه المناطق موطنًا لعدد من أكثر الجماعات الإرهابية نشاطًا في العالم، مثل "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، "تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى"، و"بوكو حرام"، هذه الحركات تستغل الهشاشة السياسية، الصراعات العرقية، والفقر المدقع المنتشر في هذه الدول لتعزيز نفوذها وتجنيد الأفراد من المجتمعات المحرومة.
موضوعات مقترحة
هذه الحركات تستفيد من البيئة الجغرافية الوعرة في منطقة الساحل، حيث يصعب على الجيوش الوطنية التحكم في مساحات شاسعة من الأراضي، كذلك، تعاني دول المنطقة من ضعف في البنية التحتية الأمنية والتنموية، مما يعزز من قدرة الجماعات الإرهابية على التحرك بحرية ونشر أفكارها المتطرفة.
غرب إفريقيا أيضاً تواجه تهديدات مختلفة لكنها متداخلة مع منطقة الساحل، على سبيل المثال، جماعة "بوكو حرام" النيجيرية، التي تأسست في 2002 في شمال نيجيريا، استمرت في توسيع نطاق عملياتها لتشمل الكاميرون، تشاد، والنيجر. تعتبر هذه الجماعة من بين أكثر الجماعات دموية في إفريقيا، حيث نفذت هجمات عنيفة على المدارس، الكنائس، والمرافق الحكومية، كما اشتهرت بخطف الفتيات والشباب وتجنيدهم في صفوفها.
في السنوات الأخيرة، انشق بعض عناصر "بوكو حرام" لتأسيس "تنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا"، وهو فرع من تنظيم الدولة الإسلامية، ويتبنى أساليب أكثر تنظيمًا في الهجمات على القوات العسكرية والمنشآت الحيوية، هذا التنظيم يسعى لفرض سيطرته على المناطق الحدودية بين نيجيريا والنيجر، ويستخدم الموارد الطبيعية مثل البحيرة التشادية للحصول على تمويل لأنشطته.
تتداخل أنشطة هذه الحركات الإرهابية مع شبكات تهريب الأسلحة، المخدرات، والبشر، مما يعزز من قدرتها على التمويل والاستمرار، علاوة على ذلك، فإن الصراعات السياسية الداخلية وعدم الاستقرار في الحكومات يجعل من الصعب على الدول الإفريقية التصدي لهذه التهديدات بمفردها، على الرغم من وجود بعض الجهود الإقليمية، إلا أن هذه المبادرات تواجه تحديات كبيرة، من بينها نقص التمويل وضعف التنسيق بين الدول الأعضاء.
في ضوء هذه المعطيات، فإن ملف الإرهاب في إفريقيا، وخاصة في الساحل وغرب إفريقيا، يتطلب استراتيجيات شاملة تجمع بين الحلول العسكرية، التنموية، والسياسية، يجب على الدول الإفريقية والمجتمع الدولي تعزيز التعاون للتصدي لهذه التهديدات، مع التركيز على معالجة الجذور الاجتماعية والاقتصادية التي تسهم في انتشار التطرف والإرهاب، هذه المعركة ليست فقط أمنية، بل تنموية أيضًا، ويتعين على الجميع العمل معًا لضمان استقرار وسلامة القارة الإفريقية.
تصاعد الإرهاب في غرب إفريقيا.. التهديدات العابرة للحدود وتأثيرها على الأمن القومي والتنمية في القارة السمراء
د.عطية الطنطاوي: القارة الإفريقية من بيئة آمنة إلى ملاذ لـ60 جماعة إرهابية خلال العقدين الأخيرين
د.غادة فؤاد: ضعف القدرات وانحسار التمويل الدولي والعقوبات الإقتصادية تعقد أزمة مواجهة الإرهاب
نهاد محمود: انسحاب القوى الدولية مع التغيرات السياسية المتسارعة عزز من تمدد الإرهاب في تلك المنطقة
تشهد منطقة غرب إفريقيا تحديدا تصاعدا ملحوظا في نشاطات الجماعات الإرهابية في العقدين الأخيرين، مما يشكل تهديدا جديا لأمن واستقرار المنطقة، تعود جذور الإرهاب في هذه المنطقة إلى عدد من العوامل المعقدة، منها الفقر المدقع، البطالة، الفساد، بالإضافة إلى الانقسامات العرقية والدينية، هذا المزيج من العوامل خلق بيئة خصبة لتجنيد الأفراد والشباب من قبل الجماعات المتطرفة، حيث تعتبر جماعات مثل بوكو حرام في نيجيريا، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في منطقة الساحل، من أبرز اللاعبين في مشهد الإرهاب في غرب إفريقيا، هذه الجماعات تستغل الفوضى وعدم الاستقرار السياسي في بعض الدول لشن هجمات مدمرة ضد المدنيين والعسكريين على حد سواء،مما تتسبب في نزوح آلاف الأشخاص، وتدمير البنية التحتية، وتعطيل الأنشطة الاقتصادية، وهو ما عمق من دائرة الفقر والحرمان، من الناحية الاستراتيجية، يشكل الإرهاب في غرب إفريقيا تهديدا خطيرا للأمن القومي للعديد من الدول، مع تزايد الضغوط على الحكومات لتعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية، مما يتطلب تعاونًا إقليميًا ودوليًا لمواجهة هذا التحدي المشترك، ونستطلع في هذا التحقيق آراء الخبراء والمختصين هو ما يجرى في غرب القارة الأفريقية.. ولماذا ينتشر الإرهاب بهذه الصورة المفزعة؟.
في البداية، قال الدكتور عطية الطنطاوي، عميد كلية الدراسات الإفريقية العليا جامعة القاهرة، إن القارة الإفريقية تعانى الكثير من المشكلات رغم ماتكتنزه من موارد طبيعية وبشرية تكفى لسكان الأرض، فالقارة التى تبلغ مساحتها 30.3 مليون كم2 ويستوطنها 1.4 مليار نسمة ثلثهم من الشباب القادر على العمل وتكتنز فى باطنها أثمن المعادن كالماس والذهب والنحاس واليورانيوم وغيرها، مضيفاً أن على أرضها تتنوع النباتات والحيوانات وأشكال السطح، كما تتنوع بها الظروف المناخية وتتوافر بها موارد المياه والطاقة وغيرها من مقومات الحياه الكريمة، تنتشر بها الأمراض والأمية والبطالة بالإضافة إلى آفة العصر التطرف والإرهاب.
وأضاف عميد كلية الدراسات الإفريقية العليا جامعة القاهرة، أن القارة الإفريقية كانت بيئة آمنه وبعيدة عن التطرف أصبحت فى العقدين الأخيرين ملاذاً للحركات الإرهابية والتى قاربت 60 جماعة أخطرهم ماهو منتشر فى الغرب الإفريقى الذى يتلقى تهديدات إرهابية متفاقمة مصدرها مجموعات غير وطنية، وجماعات متطرفة محلية مثل بوكوحرام التى تعد من أسوأ الجماعات الإرهابية فى العالم، وحركة أنصار الدين بمالى، مضيفاً أن من بين العوامل التى جذبت الحركات الإرهابية لمنطقة الغرب الإفريقى ضعف الدول أمنياً وعدم التنسيق الأمنى فيما بينها، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي التى شهدتها المنطقة.
وأوضح أنه من بين أسباب انتشار الظاهرة الفقر والأمية وهشاشة البيئة والأوضاع السياسية السائدة حالياً فى هذه المناطق، أعلان الولايات المتحدة انسحاب قواتها من النيجر وإنهاء مهمة البعثة الأووبية فى مالى، حيث استغلت الحركات الإرهابية مثل بوكوحرام التى تنشط فى نيجيريا والنيجر حالة عدم الاستقرار وزادت من أنشطتها التخريبية، وعلى ذلك أعلن مرصد الأزهر أن العمليات الإرهابية في غربى إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء تصاعدت بنسبة 60% خلال مايو2024 عن الشهر السابق له حيث بلغت (10) عمليات، أسفرت عن مقتل (155)، وإصابة (23) آخرين.
وأوضح الدكتور عطية الطنطاوي أنه رغم الجهود الكبيرة التى تم تكريسها لدحر الإرهاب والقضاء على هذه الحركات الإرهابية، تمكنت تلك الحركات من امتصاص الضربات الموجعة التى تلقتها، وأعادت تنظيم نفسها بطرق جديدة أكثر فاعلية مكنتها من الاستمرار والانتشار، مؤكداً أن الدول الإفريقية لاتزال تعمل بمنطق الجزر المنعزلة فى مواجهتها للإرهاب خوفاً من التدخلات الأجنبية فى شئونها، إلا أن الإرهاب ظاهرة متشعبة ومكافحته تستلزم التعاون الإقليمى والدولى أى تستلزم حلول تتعدى الحدود الوطنية.
وطالب عميد كلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة بضرورى إنشاء قوة إفريقية تابعة للاتحاد الإفريقى، وذلك لقطع الطريق على التدخلات العسكرية الأجنبية المباشرة فى شئون القارة، وقصر التعاون الأجنبى على توفير الدعم المالى واللوجيستى والمعلوماتى، وأنه على الأفارقة أنفسهم أن يتصدوا لهذه المشكلة ودحر الإرهاب ومحاربة التطرف لأنهم هم القادرون على حل مشاكلهم وتحقيق أمنهم ومعالجة أسباب الظاهرة كالجهل وعدم الوعى والتسرب من التعليم والبطالة والقبلية وهجرة العقول، مضيفاً أن تطور الجماعات الإرهابية في المنطقة يشكل مصدراً لقلق الدول والمجتمع الدولي على حد سواء، كما يمكن للدول الإفريقية أن تستعين بالتجربة المصرية فى الحرب على الإرهاب حيث استطاعت مصر أن تجتث الجماعات الإرهابية من أراضيها.
مؤشر الارهاب العالمي
من جانبها، أكدت الدكتورة غادة فؤاد، مديرة المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية، أنه في خضم انشغال العالم بأحداث غزة وما يدور بها من مذابح وإبادة جماعية، يظل هناك أحداث دامية تحدث على الطرف الآخر من العالم وتحديدا في القارة الافريقية التي يزداد التنافس الدولي حولها يوما بعد يوم، ما أدى إلى انتشار أكثر للصراعات الداخلية والحركات المتطرفة التي تسعى كل منها لتنفيذ أجندة قوى دولية مختلفة التوجهات والأهداف، مضيفة أن نتائج مؤشر السلام العالمي للعام 2024 التى صدرت خلال شهر يونيو الماضي أظهرت تدهور حالة السلام العالمي للمرة الثانية عشر خلال الست عشرة عاما الماضية مع انخفاض متوسط مستوى السلام في دول العالم بنسبة 0.56 في المائة مقارنة بالعام السابق. كما جاءت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كثاني أقل المناطق سلمية بعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث توجد في المنطقة ثلاث من الدول العشر الأقل سلمية في العالم.
وأضافت مديرة المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية، أن بين تلك الدول التي شهدت انخفاضا في السلم في افريقيا كانت دول إقليم غرب افريقيا وبالأخص دول منطقة الساحل والصحراء، حيث جاءت غالبيتها في المراتب الدنيا من تصنيف مؤشر السلام العالمي لدول أفريقيا جنوب الصحراء فمن بين 44 دولة جاءت في التقرير احتلت مالي المرتبة 42، يليها بوركينا فاسو (39)، نيجيريا (38)، النيجر (36)، تشاد (33) وكان افضلهم في الترتيب غانا التي جاءت في المرتبة الرابعة، كما سجلت الجابون ثالث أكبر تدهور على الإطلاق في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، فقد تراجعت 18 مركزًا في التصنيف إلى المركز 118، موضحة أن هذا التصنيف يتوافق مع تصنيف مؤشر الارهاب العالمي لعام 2024 والذي احتلت فيه دول غرب افريقيا وتحديدا دول الساحل والصحراء ايضا موقع الصدارة فقد سجلت بوركينا فاسو وحدها 25% من اجمالي عدد وفيات العالم الناجمة عن العمليات الارهابية، وبالتالي جاءت في المرتبة الأولى للدول الأكثر تضررا من الإرهاب. فقد ارتفعت بها الوفيات الناجمة عن الإرهاب بنسبة 68 % وكان آخر تلك العمليات الهجوم الذي قامت به جماعة تابعة لتنظيم القاعدة على منطقة مانسيلا في شمال البلاد ووحدة عسكرية بالقرب من الحدود مع النيجر في 11 يونيو الجاري مما أسفر عن عدد كبير من القتلى والمصابين.
وأوضحت أن منطقة غرب افريقيا تشهد منذ سنوات عدة انتشار للحركات الارهابية المحلية والخارجية وتتنوع الاسباب المؤدية لانتشار الارهاب في غرب افريقيا من دولة الى اخرى فقد تجتمع مجموعة منها في أكثر من دولة بينما تظل هناك اسباب فريدة لبعضها، ومن أهم الاسباب لانتشار الأرهاب في غرب أفريقيا هو أن الدول في غرب افريقيا تحتل مراتب منخفضة وفقا لتصنيف ترتيب قدرات الدول العسكرية عالميا، مضيفة أن المواجهة بين الجيوش الوطنية والحركات المتطرفة والارهابية في غرب افريقيا غير متكافئة خاصة بعد زيادة حدة الضربات في منطقة الساحل عقب الخلاف بين فرنسا ودول تجمع الساحل الثلاث مالي وبوركينا فاسو والنيجر وما أعقبه من اعلان مالي في 2024 الانسحاب من اتفاق السلام الموقع بين الدولة والحركات الانفصالية برعاية الجزائر في عام 2015، مما خلق سيناريوهات أخرى باتفاق المصالح المرحلي بين عدد من الانفصاليين وبعض الحركات المتطرفة المتواجدة في المنطقة أسوة بما حدث سابقا.
وأكدت الدكتورة غادة فؤاد أن الدول الثلاث تعمل على تعويض هذا العجز في القدرات العسكرية، من حيث التدريب والعتاد، بالاعتماد على الحليف الروسي الجديد حديث العهد بالمنطقة والذي يحتل المرتبة الثانية عالميا في القدرات العسكرية، كان آخرها في التاسع عشر من شهر يونيو الماضي بوصول مدربين جدد من "فيلق إفريقيا"، والذي يعرف سابقا بأسم "قوات مجموعة فاجنر"، قادمين من مالي الحليف الأكبر لروسيا حاليا في غرب افريقيا، إلى بوركينا بعد العملية الارهابية الأخيرة، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هل ستنجح روسيا في تخفيف وطأة الهجمات وانحسارها في غرب افريقيا إذا وضعنا في الاعتبار الاسباب الأخرى المؤدية لانتشار الارهاب وتمدده بالاضافة إلى زيادة رقعة المواجهة بين روسيا والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
عدم الوفاء بالتعهدات الدولية
كما اشتدت وطأة العمليات التي تشنها تلك الحركات خاصة بعد حدوث تغيرات سياسية في عدد من دول الإقليم جاءت بأنظمة جديدة للحكم، ولكنها أخلفت وعودها بل أن بعضها أعلن صراحة استبعاد إجراء انتخابات رئاسية أو تسليم السلطة في القريب العاجل، كما أعلن رئيس وزراء غينيا منذ عدة أيام عن عدم إجراء الانتخابات كما كان مقررا في العام الجاري وما أعلنته بوركينا ومالي والنيجر مؤخرا من تمديد للفترة الانتقالية، أو بتسخير أدوات الديموقراطية لترسيخ نظام سياسي بعينه في الحكم كما حدث في الانتخابات الرئاسية التشادية الأخيرة، وبالتالي تسبب ذلك في إثارة حالة من الرفض لدى بعض الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية الليبرالية مما أوجد مزيد من التشاحن داخل المجتمع وجاء رد فعل تلك الأنظمة من قمع الاعتراضات أو تجميد الحياة السياسية سواء بتعليق نشاط الأحزاب السياسية كما حدث في مالي أو تقييد حريات الصحافة كما حدث في غينيا كوناكري ووقف بث وسائل الاعلام المستقلة أو المعارضة والقبض على الصحفيينن أو بالانسحاب من اتفاقات السلام المبرمة مع الحركات الانفصالية كما حدث في مالي ايضا عندما أعلنت انسحابها من اتفاق سلام الجزائر لعام 2015 ، سببا لزيادة حدة الخلافات داخل المجتمع وتهديد الاستقرار وبالتالي تمهيد الطريق أمام الحركات الارهابية التي تستغل حالة التوتر السياسي والفراغ الأمني لمزيد من الانتشار وضم عناصر جديدة لها كأفراد أو التحالف مع حركات متمردة تحت راية محاربة النظم الديكتاتورية.
وأشارت الدكتورة غادة فؤاد إلى انسحاب الدول الثلاث مالي وبوركينا فاسو والنيجر من تجمع دول الساحل والصحراء G5 والمطالبات بانسحاب القوات الاجنبية من دولهم سواء الفرنسية أو الاوروبية أو الأممية، حيث شهدت عمليات تمويل مواجهة الارهاب انخفاضا حادا مما جعل حكومات تلك الدول تواجه أزمة مالية في توفير نفقات مواجهة تلك التنظيمات، وبالرغم من اعلان وزير الخارجية الامريكي أنتوني بلينكن أثناء زيارته في يناير الماضي عن حزمة مساعدات مالية بمقدار 45 مليون دولار للتصدي للصراعات في منطقة ساحل غرب افريقيا، ولكن تلك المساعدات يبدو أنها ستكون للدول الحليفة للولايات المتحدة وليس للدول المتعاونة مع الشريك الروسي الجديد والتي تشهد انتشارا أكثر للحركات الارهابية والهجمات الارهابية الأشد حدة في غرب افريقيا.
الأسباب الهيكلية
من جانب آخر، ترى نهاد محمود، باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية، أنه يمكن إرجاع التمدد الإرهابي بمنطقة غرب أفريقيا إلى تضافر عدد من العوامل، منها سقوط بعض الأنظمة السياسية التي أدت إلى انتشار المقاتلين بدول الإقليم الأكثر هشاشة، مثل سقوط النظام الليبي في فبراير 2011، والذي بدوره أدى لانتشار مقاتلي الطوارق بشمال مالي وعودتهم مدججين بالأسلحة من ليبيا، مطالبين بالانفصال بشمال مالي، بعد أقل من عام من سقوط النظام الليبي، وإعلانهم استقلال دولة أزواد أبريل 2012 الذي لم تحظى بالاعتراف الدولي أو الإقليمي، وكذلك عدم استقرار الأنظمة الحاكمة، وتزايد وتيرة التغيرات السياسية بالمنطقة، خاصة منذ 2019 وإلى 2023، بدءًا من مالي وبوركينا فاسو، وغينيا كوناكري، وحتى النيجر في 2023.
وأضافت الباحثة المتخصصة في الشئون الأفريقية، أنه لاشك في أن الخروج الفرنسي سيحدث تأثيرًا في تزايد أنشطة الإرهاب وكذلك خروج البعثة الأممية من مالي "مينوسما"، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة مقابل مزيد من التقرب لروسيا الذي لم يتضح تأثيره بعد في مكافحة الإرهاب، موضحة أن هناك نقص فى الإمكانات المالية واللوجستية اللازمة لمراقبة الحدود ومناطق نفوذ الجماعات الإرهابية، والتي تؤدي هشاشة الأمنية في إدارة الحدود إلى مزيد من الانتشار لهذه التنظيمات، على سبيل المثال فقدت الدولة البوركينية حوالي 40% من أراضيها لصالح الجماعات الإرهابية، مشيرة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي لأغلب دول غرب أفريقيا، باستثناء كابو فيردي وغامبيا وغينيا ومالي والنيجر، وفقًا لتقرير بنك التنمية الأفريقي عن التوقعات الاقتصادية لغرب أفريقيا لعام 2023.
وأشارت الباحثة نهاد محمود، إلى ارتفاع معدلات الفقر في منطقة غرب إفريقيا، حيث قفز معدل الفقر 3% في أعقاب جائحة كوفيد-19، فضلًا عن تأثيرات التغير المناخي التي تؤثر على الزراعة التي توفر فرص العمل والغذاء للمواطنين، وكلها أسباب تسهل من سيطرة الجماعات الإرهابية على المناطق الأكثر فقرًا من أجل فرض النفوذ وتعبئة مزيد من المجندين من دول إقليم غرب أفريقيا الأكثر تأثرًا بهذه العوامل، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، لا تزال حدود مالي مع بوركينا فاسو والنيجر واحدة من أكثر المناطق تأثرًا بالإرهاب بغرب أفريقيا وهو ما دفع الدول الثلاث لإطلاق ميثاق "ليبتاكو-غورما" سبتمبر من العام الماضي، لمواجهة التحديات المتنامية هناك.
كما تؤثر ظاهرة هشاشة الدول كثيرًا على قدراتها على التعامل مع الإرهاب، وتنتشر ظاهرة الدولة الهشة بشكل كبير داخل إقليم غرب أفريقيا وهو ما يمكن أن يفسر أيضًا أسباب تصاعد هذه التنظيمات هناك. على سبيل المثال وفقًا لمؤشر الدول الهشة الصادر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي الأمريكية لعام 2023، والمعني بقياس حالة هشاشة الدول وفقًا لعدة محاور أساسية (سياسية – اجتماعية- اقتصادية – التماسك) فقد وقعت أغلب دول بمراتب متقدمة بمؤشر الدول الهشة (بين تصنيفات الهشاشة الأكثر خطورة بين حذر وحذر للغاية وإنذار)، كالسنغال، بنين، غامبيا، سيراليون، توجو، موريتانيا، ساحل العاج، غينيا بيساو، النيجر، مالي، بوركينا فاسو، غينيا كوناكري، نيجيريا.
العقوبات الاقتصادية
شهدت الدول الأفريقية التي وقعت بها الأحداث خلال السنوات الماضية موجة من العقوبات الاقتصادية التي كانت قاسية للحد الذي أعاق قدرة الأنظمة الحاكمة على مواجهة الارهاب الذي تتوافر له وسائل دعم خارجية مختلفة ومتنوعة، وقد كان أخرها العقوبات الامريكية على الجابون في أكتوبر 2023، بعد الأحداث السياسي التى انهت حكم عائلة بونجو فقد قامت الولايات المتحدة بإزالة الجابون من قانون النمو والفرص في أفريقيا(أغوا).
بعد انسحاب القوات الأمريكية والفرنسية.. الجماعات الإرهابية توسع عملياتها في منطقة الساحل
د.سالي فريد: التحديات الاقتصادية والديون الكبيرة أعاقت جهود مواجهة الإرهاب
نهاد محمود: الجماعات التابعة لتنظيم داعش وسّعت مناطق عملياتها في غرب أفريقيا
محمد ربيع الديهي: تزايد معدل الإرهاب والجريمة في النيجر وغيرها في دول الساحل والصحراء
تساءل العديد من المراقبين حول تأثير خروج آخر جندي للقوات الأمريكية من النيجر هذا الأسبوع، والذي سبقه انسحاب كامل للقوات الفرنسية، على تحقيق الاستقرار والسلام في منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا. هذا التحول الكبير في التواجد العسكري الغربي يطرح تساؤلات حول مدى قدرة الدول الإفريقية على تعزيز أمنها واستقرارها بنفسها دون الاعتماد على الدعم الخارجي، خاصة في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجهها المنطقة، بما في ذلك نشاط الجماعات المسلحة والعنف المتصاعد بين المجتمعات المحلية. هل يشكل هذا الانسحاب خطوة نحو تعزيز السيادة الوطنية وتحقيق الاستقرار طويل الأمد، أم أنه سيؤدي إلى فراغ أمني قد يزيد من حدة الاضطرابات والصراعات في هذه المنطقة الحساسة؟.
فى البداية، أكدت نهاد محمود الباحثة فى الشؤون الإفريقية، أنه حتى الآن ومع متابعة التطورات غير المتوقفة بشأن الأوضاع في منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا، خاصة التحركات المرتبطة بأنشطة الجماعات الإرهابية والمتمردة بالمنطقة، لا يبدو أن الوضع عقب خروج القوات الفرنسية من منطقة الساحل ثم خروج القوات الأمريكية من النيجر قد ساعد في استقرار الأوضاع والتصدي للإرهاب بالمنطقة، وفقًا للمعطيات الراهنة.
وأضافت الباحثة فى الشؤون الإفريقية أن هناك عدد من الدلالات والوقائع نذكر منها أولًا أن بعض القوى الإقليمية المنخرطة في المنطقة حاولت تأمين مصالحها وأعمالها بمنطقة الساحل خشية من تدهور الأوضاع المتأزمة بالفعل، ثانيًا فيما يتعلق بإعلان الولايات المتحدة سحب جنودها من النيجر على وجه التحديد، يعد البعض ذلك بأنه خسارة نقطة استراتيجية هامة لعمليات الاستخبارات ضد الجماعات المسلحة في منطقة الساحل، ثالثًا استمرارًا لذلك التدهور في الأوضاع لاسيما الأمنية منها، حيث أكد مسؤول مكافحة الإرهاب بالأمم المتحدة في إحاطة دورية لمجلس الأمن في أغسطس 2024، إن الجماعات التابعة لتنظيم داعش وسّعت وعززت مناطق عملياتها في غرب أفريقيا والساحل.
وأوضحت أن مسؤول مكافحة الإرهاب أشار إلى أن مشهد الإرهاب في غرب أفريقيا والساحل لا يزال صعبًا ومعقدًا، كما ذكر المسئول بالمنظمة الأممية إلى أن جماعتين تابعتين لداعش في المنطقة (وهما ولاية غرب أفريقيا التابعة للدولة الإسلامية وتنظيم الدولة الإسلامية -ولاية الساحل) وسعتا وعززتا مناطق عملياتهما، محذرًا من إنه إذا زادت هذه الجماعات من نفوذها في الولايات الشمالية، فسيمكنها ذلك من السيطرة بشكل فعّال على الأراضي من مالي إلى شمال نيجيريا.
وأشارت إلى أنه بالاتجاه نحو مالي، فبالرغم من التقارب المالي-الروسي، وتعاون باماكو مع مجموعة فاغنر الروسية الخاصة منذ العام 2021 لمحاربة الحركات المتمردة والإرهابية في البلاد، لم يمنع ذلك التعاون من إلحاق خسائر وصفت بالفادحة للجانبين المالي (القوات المسلحة المالية) والروسي (قوات فاغنر) في معارك اندلعت في تينزاواتين قرب الحدود الجزائرية، بين 25 و27 يوليو الماضي (2024)؛ حيث أكدت مجموعة «فاغنر» أنها خسرت فصيلًا عسكريًا كاملًا، خلال معارك بشمال مالي، ضد متمردين من الطوارق والعرب، وقالت إن قائد الفصيل قُتِلَ خلال هذه المعارك، فيما أكد المتمردين الماليين على أنهم أطاحوا بـ84 عنصرًا تابعًا لمجموعة فاغنر الروسية و47 عسكريًا ماليًا، وهو رقم يفوق عدد قتلى القوات الفرنسية (59) منذ انتشارها في مالي على مدار نحو 9 سنوات.
وترى نهاد محمود أن فاغنر ليست بَعد بالخبرة الكافية التي تمكنها من التعامل مع الطبيعة الجغرافية لمنطقة الساحل والصحراء كفرنسا على سبيل المثال، يعضد من هذه الرواية ما ذكرته فاغنر من أن خسارتها بمعارك شمال مالي جاءت بسبب عاصفة رملية؛ حيث قالت المجموعة الروسية الخاصة إن الوحدة المقاتلة التابعة لها «تمكنت في اليوم الأول من القضاء على معظم الإسلاميين، وأجبرت الباقين منهم على الفرار»، قبل أن تؤكد أن «العاصفة الرملية التي تلت ذلك سمحت للمتطرفين بإعادة تجميع صفوفهم، وزيادة أعدادهم إلى 1000 شخص» وهو ما يزيد الوضع تأزمًا ويؤثر كثيرًا على صورة فاغنر وروسيا بشكل أوسع نطاقًا بالمنطقة، التي لجأ إليها العسكريون بمنطقة الساحل لمكافحة الإرهاب وفرض الأمن، كحليف استراتيجي بديل عن الحلفاء التقليديين السابقين فرنسا والولايات المتحدة.
إجمالًا تشير البيانات كتلك الصادرة عن مركز افريقيا للدراسات الاستراتيجية لعام 2024 إلى أن منطقة الساحل شهدت تضاعفًا في عدد الأحداث المتطرفة العنيفة منذ عام 2021، وهو العام الذي بدأت فيه مالي للانخراط مع فاغنر لمحاربة الإرهاب، كما تضاعف عدد القتلى المرتبطين بهذه الأحداث ثلاث مرات تقريبًا خلال نفس الفترة، نتج عن ذلك تشريد الملايين، وإغلاق آلاف المدارس، وترك 12.7 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ولم يكن الجوار بمعزل عن هذه الأحداث، على سبيل المثال كانت بنين الأكثر تضررًا حيث تضاعف عدد الوفيات المسجلة (إلى 173 حالة وفاة) في العام الماضي وحده. كما زاد العدد السنوي للأحداث العنيفة المرتبطة بالجماعات الإسلامية المتشددة بحدود جيران الساحل في غرب إفريقيا وعلى بُعد 50 كيلومترًا منها بنسبة تزيد عن 250 في المائة على مدى العامين الماضيين (2022 و2023)، متجاوزًا 450 حادثًا.
أسباب انتشار الإرهاب
من جانبها، قالت الدكتورة سالي فريد، أستاذ الاقتصاد بكلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، إن منطقة الساحل والصحراء تعاني من اختلالات اقتصادية كبيرة ومن فساد سياسي واقتصادي، بالإضافة إلى الهشاشة والتدهور الاقتصادي.
وأوضحت أن معظم دول منطقة الساحل تصنف ضمن فئة البلدان الأقل نموًا، وتعاني من أعباء ديون خارجية كبيرة، وأشارت إلى أن إحصائيات مجموعة البنك الأفريقي للتنمية، والاتحاد الأفريقي، واللجنة الاقتصادية لأفريقيا، قد أظهرت أن حجم الديون الخارجية بلغ حوالي 1751 مليون دولار في بوركينا فاسو، و2134 مليون دولار في تشاد، و1863 مليون دولار في مالي، بينما وصل في السودان إلى 34360 مليون دولار.
وأضافت سالي أن الناتج المحلي الإجمالي لكل من المغرب والجزائر وتونس يعادل 11 مرة ضعف الناتج المحلي الإجمالي لكل من تشاد وموريتانيا ومالي والنيجر، في حين يشكل النفط حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي لدول الساحل والصحراء باستثناء ليبيا والجزائر. وأشارت إلى أن متوسط نصيب الفرد من الدخل في دول الساحل يبلغ 59% فقط من متوسط دخل الفرد في إفريقيا جنوب الصحراء، مما يزيد من هشاشة أوضاع سكان المنطقة، حيث يشكل الشباب دون سن العشرين نسبة 60% من السكان.
وأكدت فريد أن دول الساحل والصحراء تعد من بين أدنى دول العالم مرتبة على مؤشر رأس المال البشري، الذي يقيس مدى إسهام الصحة والتعليم في إنتاجية الجيل القادم من القوة العاملة. ووفقًا لتقرير "جول كيبرز"، فإن احتمالية وفاة الطفل في تشاد خلال السنوات الخمس الأولى من عمره تصل إلى 55 ضعفًا مقارنة بنظيره في فنلندا. وأشارت إلى أن نصف سكان تشاد تقريبًا يعيشون تحت خط الفقر، وأن 50% فقط من الأطفال يذهبون إلى المدارس، بينما لا تتجاوز نسبة طلاب الصف السادس القادرين على قراءة قصة بسيطة 15%. وشددت على أن هناك عوامل متعددة تؤدي إلى تزايد الفقر، مثل تغير المناخ والنزاعات، مما يزيد من صعوبة استثمار الأسر في رأس مالها البشري.
التدخلات الأجنبية
من جانب آخر، أكد محمد ربيع الديهي، الباحث في العلاقات الدولية، أنه لا شك في أن منطقة الساحل والصحراء تحظي باهتمام كبير لعديد من الأسباب، منها موقع دول الساحل والصحراء في القارة الافريقية بالإضافة إلى الموارد الطبيعة والثروات المعدنية، فضلا عن الطاقة مما يكسب هذه المنطقة أهمية خاصة في السياسة الدولة والإقليمية.
وأضاف الباحث في العلاقات الدولية، أنه على مر السنوات الماضية شهدت المنطقة تدخلات اجنبية عديدة بهدف مواجه الإرهاب والعنف المسلح به، وهو الامر الذي انعكس بطبيعة الحال على الاستقرار في تلك المنطقة، ومؤخرًا وبعد مجموعة من التغيرات السياسية في تلك الدول تم الغاء اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا والولايات المتحدة الامريكية، وتبع ذلك انسحاب امريكي من تلك الدول إذ جاء الوجود الأمريكي في النيجر بهدف مكافحه الإرهاب، وعملت الولايات المتحدة على بناء قواعد عسكرية فضلا عن تقديم المساعدات العسكرية، إلا أن هذا الوجود وعلى مر السنوات الماضية لم يحقق تقدم يذكر، بل تزايد معدل الإرهاب والجريمة في النيجر وغيرها من بلدان الساحل والصحراء.
وأوضح أن الانسحاب الأمريكي ومن قبلة الفرنسي رغم فشلهم في احتواء الموقف في النيجر والقضاء على الإرهاب، يصعب علينا الان الحديث عن أن هذا الانسحاب سوف يعزز من جهود الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، خاصة ان يجب ان يكون هناك من يملئ هذا الفرغ بصورة أو اخري وهو الامر الذي قد يستغله الإرهاب لتحقيق انتشار اكبر في هذه المنطقة.