رغم أننا نعيش في أكثر العصور ترابطًا من حيث سهولة التواصل وسرعته، فإن المفارقة المؤلمة تكمن في الشعور المتزايد بالوحدة والانفصال الاجتماعي، فبينما يمكنك الوصول إلى أي شخص في ثوانٍ عبر "واتساب، إنستجرام، تيك توك، سناب شات أو حتى إجراء مكالمة (نادرة) عبر الهاتف"، إلا أن الصداقات الحقيقية "العميقة والمقربة" باتت في تراجع ملحوظ.
موضوعات مقترحة
تشير استطلاعات عديدة إلى أن عدد الأصدقاء المقربين لدى الأفراد في تناقص واضح، كما تضعف درجة الاعتماد عليهم أو التواصل معهم بانتظام.
ففي دراسة أجراها "مركز استطلاعات الحياة الأمريكية" عام 2021، تبين أن نسبة الرجال الذين لديهم ستة أصدقاء مقربين أو أكثر قد انخفضت من 55% عام 1990 إلى 27% فقط، أما النساء، فقد تراجعت النسبة من 41% إلى 24%. الأسوأ من ذلك أن 12% من الأمريكيين قالوا إنهم لا يملكون أي صديق مقرب على الإطلاق.
ولم تكن الجائحة سوى مكبر صوت لهذا الاتجاه، إذ عمّقت من العزلة وغيّرت شكل التفاعلات الاجتماعية، وكما أظهر تقرير من وكالة "موديرن سيتزنز" في بريطانيا، فإن 22% من السكان قالوا إن شبكتهم الاجتماعية تقلصت خلال السنوات الثلاث الماضية، بينما ذكر 47% أنهم نادرًا ما يلتقون بأصدقائهم أو عائلاتهم.
الفئة الأصغر سنًا – من 16 إلى 29 عامًا – تبدو الأكثر تأثرًا، حيث يعاني كثيرون منهم من الوحدة المزمنة بيانات "مشروع الصداقات الكبرى" تكشف أن نسبة الشباب تحت سن 35 الذين ليس لديهم سوى صديق مقرب واحد أو لا أحد، ارتفعت من 7% إلى 22% خلال العقد الأخير.
ما الذي يحدث تحديدًا؟
صحيح أن الجائحة ساهمت في تعطيل الروابط الاجتماعية، لكن الأسباب تمتد إلى أعمق من ذلك، فقد أصبح نمط الحياة الحديث أكثر تفككًا من أي وقت مضى.
الانتقال المستمر: التنقل الجغرافي لأسباب دراسية أو مهنية أو شخصية يؤدي إلى تقطيع العلاقات وفقدان الاستقرار الاجتماعي.
الانشغال المفرط: الأبوان اليوم يكرسان وقتًا أكبر لأطفالهم، والموظفون يعملون لساعات أطول، ما يترك القليل من الوقت للاستثمار في الصداقات.
التكنولوجيا والاستقلالية: لم نعد بحاجة إلى طلب المساعدة من الجيران أو الأصدقاء كما في الماضي. نطلب سيارة من تطبيق، ونشتري السكر من الإنترنت. وهكذا، ننجز ما نريد دون الحاجة إلى أي تفاعل بشري.
التعدد المربك للعلاقات: لأننا نقابل أشخاصًا أكثر من أي وقت مضى – من المدرسة والعمل والمنصات الاجتماعية – فإننا نصبح منهكين اجتماعيًا، ما يصعب بناء صداقات عميقة ومستقرة.
لماذا أصبح تكوين الصداقات صعبًا؟
الحياة أصبحت مزدحمة، وتعدد المهام صار هو القاعدة في خضم العمل، ورعاية الأطفال أو الوالدين، والانشغال بالتزامات لا تنتهي، يُنظر إلى تخصيص وقت للأصدقاء على أنه ترف لا يمكن تحمله والأسوأ أن البدائل الترفيهية سهلة الوصول – كالمسلسلات ومنصات البث – تستهلك ما تبقى من وقتنا وجهدنا.
تقول الكاتبة آنا جولدفارب: "الصداقات تتطلب جهداً حقيقياً ومن المفاجئ أحياناً إدراك مقدار هذا الجهد، خصوصاً لمن لم يعتادوا بذله ونحن ننجذب إلى الخيارات الأسهل، لكنها لا تُكافئنا نفسيًا كما تفعل الصداقات الحقيقية".