تُعد دراسات تقييم الأثر البيئي والاجتماعي اليوم ضرورية لمواجهة تعقيدات العصر الحديث وتشابك القضايا والمشكلات، ويعود تاريخ تقييم الأثر البيئي إلى عام 1969، عندما اشترط الرئيس الأمريكي إجراء هذه الدراسات للموافقة على أي مشروع، وهذا التوجه جاء بعد أن أثبتت دراسات الجدوى الاقتصادية وحدها قصورها، حيث كانت العديد من المشاريع تحقق نجاحًا اقتصاديًا على المدى القصير، لكنها تُسفر عن أضرار صحية وبيئية واجتماعية جسيمة، كما حدث مع مشروعات الثورة الصناعية التي أدت إلى تزايد الملوثات وتهديد حق الحياة نفسه من خلال مشكلات تغير المناخ والتلوث.
بعد سنوات من تطبيق تقييم الأثر البيئي، طالب البنك الدولي بإضافة "التقييم الاجتماعي" كشرط أساسي، مما يؤكد أهمية البعد الاجتماعي للمشاريع، فبرغم أن تقييم الأثر البيئي يشمل ضمنيًا الأبعاد الصحية والاجتماعية والاقتصادية، فإن تأكيد البعد الاجتماعي يبرز ضرورة توافق المشروع مع عادات وتقاليد المجتمع لتجنب الفشل، كما حدث في العديد من مشروعات الإسكان والتعليم والصحة التي لم تأخذ في الاعتبار هذه الجوانب الثقافية والاجتماعية.
ويمتد نطاق عملية تقييم الأثر البيئي والاجتماعي ليشمل القرارات، وليس فقط المشروعات، لتصبح بذلك فلسفة حياة في دراسة أي خطوة أو قرار قبل الإقدام عليه.
تطبيق المفهوم على حرب غزة وقرارات إسرائيل
بتطبيق هذا المفهوم على حرب غزة وقرارات إسرائيل الأخيرة، نلاحظ عدة نقاط أساسية:
يسعى العدو وقادته لتوسيع نطاق الحرب بحثًا عن نصر لتحسين صورتهم الداخلية والخارجية، إلا أن الواقع جاء معاكسًا، حيث اتسعت الفجوة بين النظام الإسرائيلي وشعبه.
فالعدوان الأخير على إيران والرد الإيراني، بغض النظر عن حجمه، زاد من شعور المواطن الإسرائيلي بالذعر وفقدان الأمن، كما عمّق إحساسه بأن جميع المحيطين به أعداء، نظرًا لتعدد مصادر الصواريخ المنطلقة على إسرائيل من فلسطين، واليمن، وإيران، وحزب الله.
عند تقييم الأثر البيئي، يبدو أن إسرائيل نجحت في تدمير شبه كامل لمدينة غزة ومواقع لحزب الله في لبنان وكثير من المواقع الإيرانية، مما يشير إلى خسائر بيئية أقل لإسرائيل مقارنة بهذه المناطق.
لكن النتائج على الصعيدين الاجتماعي والنفسي تبدو عكسية تمامًا، وهذا هو الأهم؛ فالدول المتضررة مثل فلسطين واليمن ولبنان وإيران، تملك مقومات الاستدامة والحضارة، وهي دول عريقة ذات تاريخ ومجتمعات متماسكة، وقادرة على تجاوز الصدمات والعودة إلى قوتها.
معاناة إسرائيل من مشكلات هيكلية وأساسية:
الحدود الجغرافية والعداوات: مساحتها محدودة وتحيط بها عداوات تاريخية ودينية من كل جانب، مما يجعلها عرضة لتأثير سلبي شامل لأي عدوان، حتى لو كان صغيرًا؛ فمثلاً، الرد الإيراني الأخير أدى إلى دخول معظم سكانها المخابئ؛ مما كشف عجز الدولة عن توفير الأمن والأمان لمواطنيها.
غياب التاريخ المشترك: إسرائيل ليس لديها تاريخ موحد يجمع سكانها القادمين من شتى أنحاء العالم، فارتباط الإنسان بوطنه يستمد قوته من تاريخه وتاريخ أجداده، وهذا ما يفتقده المجتمع الإسرائيلي، مما يثير تساؤلات حول سبب بقاء مواطنيها في أرض لا تمثل لهم هذا الارتباط العميق، خاصة مع غياب الأمن.
النسيج الاجتماعي غير المتجانس: المجتمع الإسرائيلي يفتقر إلى التجانس، فالتمايزات والعداوات بين اليهود من أصول مختلفة (الغربيين، الشرقيين، الفلاشا) تمثل نقطة ضعف كبيرة قد تسرع من نهايته.
الكتلة البشرية المحدودة: عدد سكان إسرائيل صغير، ولا يتحمل خسائر حروب متعددة على عدة جبهات، مما يعني أنها تفتقر لمقومات الاستمرارية أو الاستدامة كدولة.
التوقعات المستقبلية بناءً على التقييم
بناءً على التقييم الاجتماعي والنفسي، تتضح خسائر إسرائيل الجسيمة التي تنعكس سلبًا على هيكل الدولة الأساسي، مما قد يؤدي إلى انهيارها التدريجي، فالشخصية الإسرائيلية تتسم بالاجتهاد والثراء، لكنها أيضًا تتسم بالخوف الشديد والجبن، من هنا، يمكن استخلاص عدة توقعات واضحة:
توقف الهجرة إلى إسرائيل وهجرة عكسية:
فشلت إسرائيل في توفير الحد الأدنى من الأمن لمواطنيها، بل إن بعض وزرائها اقترحوا حلولًا متطرفة تعكس هذا العجز، تشير الإحصاءات المتوافرة إلى هجرة عكسية من إسرائيل، بالإضافة إلى عدم إقبال اليهود على الخدمة العسكرية، هذا يعني عدم القدرة على تعويض الخسائر البشرية والاجتماعية والنفسية، مما يؤدي إلى انهيار تدريجي للدولة.
فقدان الدعم الدولي:
في عصر الفضاء المفتوح والإعلام الرقمي، انكشفت للعالم طبيعة سلوك إسرائيل العنيف والظالم، مما غير الصورة النمطية السائدة عنها في أمريكا والغرب، فقد ظهرت مظاهرات في أمريكا والدول الغربية تدين إسرائيل؛ مما يعني فقدان تعاطف وتأييد هذه الشعوب، وهذا سينعكس قريبًا على الحكومات، وقد بدأت بعض الحكومات الأوروبية ترفع تأييدها لإسرائيل، وسيزداد التعاطف والتأييد لفلسطين، مما سيسرع في انهيار إسرائيل على المدى القريب.
بالنظر إلى هذه المعطيات، ينبغي على الأطراف التي تعتمد على إسرائيل، أو تسعى للتقارب معها أن تدرك أن قدرتها على الصمود قد تكون محدودة، مما يستلزم إعادة تقييم للسياسات والعلاقات المرتبطة بها.
والله ولي التوفيق
* أستاذ علم الاجتماع البيئي، كلية البيئة، جامعة عين شمس