لطالما روجت الآلة الدعائية الصهيونية لفكرة أن إسرائيل هي "الاستثناء التاريخي"؛ دولة خارقة بجيش لا يُقهر، ومخابرات تعرف ما يدور في غرف نوم أعدائها قبل أن يدور في رؤوسهم! لكن السابع من أكتوبر جاء ليمزق هذه "الأسطورة التوراتية" كما تمزق ورقة التين التي اختبأ بها آدم.
فجأة، اكتشف العالم أن "الموساد" -ذلك الوحش الأسطوري الذي يسرق العلماء ويخترق المفاعلات- كان نائمًا حين دخلت "كتائب القسام" كأنها ريح صرصر عاتية! وأن "أذكى جيش في الشرق الأوسط" كان منهمكًا في حفلات "مهرجان نوفا"، بينما كان الجنود يصرخون عبر الراديو: "أنقذونا، إنهم يذبحوننا!"
نظرية المؤامرة: الملاذ الأخير للعقل المهزوم!
لم يستطع العقل العربي -وبعض العقول الإسرائيلية أيضًا – استيعاب أن "حماس" قادرة على تنفيذ عملية بهذا الحجم دون "صفقة خفية" مع نتنياهو! وكأن الفلسطيني -في المخيال العربي نفسه- لا يمكن أن يكون بطلًا إلا إذا كان "دمية في يد الصهاينة"!
هنا تتحول الهزيمة العسكرية إلى "لعبة شطرنج كبرى"، والانتصار إلى "مؤامرة ماسونية"! فالعربي لا يصدق أن الفلسطيني يمكن أن ينتصر، إلا إذا كان الانتصار نفسه جزءًا من مؤامرة صهيونية!
"القبة الحديدية".. عندما تتحول القصيدة إلى نكتة!
لقد صدق العالم -بفضل الدعاية الإسرائيلية- أن "القبة الحديدية" هي أعجوبة تكنولوجية لا يمكن اختراقها، كأنها سور الصين العظيم! لكن غزة، ذلك السجن المفتوح، أرسلت رسالة واضحة: إن أقوى الأسلحة لا تصنع النصر إذا انعدمت الإرادة!
فبعد أن كانت "القبة" تروَّج كأسطورة دفاعية، تحولت إلى "مصفاة هواء" تسمح بمرور الصواريخ كما يمر الهواء! حتى إن بعض الإسرائيليين بدأوا يسخرون: "القبة الحديدية؟ بل شبكة صيد سمك!"
هل انتهى "الردع الإسرائيلي"؟ أم أننا كنا نعيش في فيلم هوليوودي؟
لطالما تحدث الإسرائيليون عن "الردع المطلق"، ذلك الوهم الذي جعلهم يعتقدون أن العرب سيبقون خائفين إلى الأبد. لكن غزة كشفت أن الردع ليس معادلة رياضية، بل معركة إرادات.
اليوم، لم يعد "الخوف من إسرائيل" مسلمة، بل صار "الخوف على إسرائيل" هو السائد. حتى إيران أرسلت صواريخها دون أن تتردد، وكأنها تقول: "إذا كانت إسرائيل وحشًا، فإننا نعرف أين ضرسه العفن!"
هل نستيقظ من السردية الأسطورية؟
لقد آن الأوان لدفن أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، و"المخابرات التي تعرف كل شيء". التاريخ لا يُصنع بالخرافات، بل بالدم والحديد. وإسرائيل، مثل كل الإمبراطوريات التي سبقتها، ستكتشف أن السقوط يبدأ حين تتصور أنها خالدة.
عبقرية إسرائيل أسطورة شعرية..
في ترسانة العقل العربي المعاصر، لم يعد "الموساد" مجرد جهاز استخبارات، بل تحول إلى أسطورة شعرية تتناقلها الأجيال كقصص "ألف ليلة وليلة" العسكرية. لقد نسج الخيال العربي جامحًا سجادة سحرية من "القدرات الخارقة" و"التفوق التكنولوجي الأسطوري"، حتى صار كل هجوم إسرائيلي على إيران يُروى كملحمة من ملاحم "عنترة بن شداد" الإلكترونية.
لكن هذه السجادة المزخرفة بالخرافات الأمنية انقلبت فجأة يوم السابع من أكتوبر، ليكتشف الجميع أن "عنترة" كان يرتدي سروالًا متهرئًا ينزلق إلى كاحليه، بينما "عبلة" الفلسطينية كانت تنسج خيوط الثورة خلف ظهره.
أولاً: شعرية الموساد.. عندما يصبح "الخيال العلمي" منهجًا تحليليًا
أسطورة "الذكاء المطلق": روجت الآلة الإعلامية العربية لصورة "الموساد" ككائن خارق يعرف عدد شعرات لحية خامنئي قبل أن يعرفها هو نفسه. لكن الواقع كشف أن "العبقرية" الإسرائيلية كانت تغفو في سريرها حين اقتحمها المقاومون بدراجات نارية كأنها خيول "المؤنسة" في الأدب الجاهلي.
ميثولوجيا التكنولوجيا: مثل شاعر المعلقات الذي يصف سيفًا لم يره، ظل الخطاب العربي يردد أن "القبة الحديدية" ستحول غزة إلى قفص ذهبي للمقاومة، لكن 4300 صاروخًا مزقوا هذه القصيدة الوهمية في ساعات، وكأنهم "طرفة بن العبد" يهزأ بأوهام القبيلة.
ثانيًا: السابع من أكتوبر.. حيث تعطلت ماكينة الشعراء
الصدمة الشعرية: فجأة، وجد العقل العربي نفسه أمام معضلة وجودية: كيف يفسر أن "الغول" الأسطوري قد انكسرت أنيابه؟ فاختزل الأمر في نظرية المؤامرة المبتذلة: "حماس ونتنياهو شركاء في الرقص"! كأن العقل الجمعي يرفض تصور أن "داوود الفلسطيني" قادر على إسقاط "جولياث" دون معونة من السماء.
المنطق المقلوب: لقد بلغ التناقض ذروته عندما تحولت الهزيمة العسكرية إلى "نصر إستراتيجي" في الخطاب الإسرائيلي، بينما حول العرب الانتصار العسكري الفلسطيني إلى "مؤامرة ماسونية"، وكما قال أحمد بهاء الدين: "هذا هو العقل العربي الذي يحول الهزائم إلى ملاحم، والانتصارات إلى مؤامرات".
ثالثًا: تشريح "الخرافة الأمنية".. بين التاريخ والشعر
درس 1982: تكررت الكوميديا السوداء في لبنان عندما صدق العرب أن إسرائيل قادرة على إعادة هندسة الشرق الأوسط. لكن "حرب لبنان الأولى" انتهت بانسحاب إسرائيل كـ"كلب مبلل" تحت المطر (بتعبير شارون نفسه)، بينما خرجت المقاومة اللبنانية أقوى مما كانت.
وهم "الردع المطلق": اليوم، يعيد التاريخ نفسه: الضربات الإيرانية الأخيرة كشفت أن "الردع الإسرائيلي" أشبه ببيت شعر جميل، لكنه لا يقاوم رياح الواقع، حتى عمليات التخريب المزعومة للموساد في إيران تبدو كـ"قصيدة نثر" غير مقفاة.
يجب أن ندرك أن تحليل الصراع بأدوات الشعر الجاهلي لن ينتج إلا أوهامًًا، لقد حان الوقت لدفن "الأسطورة الأمنية الإسرائيلية" في متحف الخيال الشعري العربي، ومواجهة الحقائق:
أن إسرائيل ليست "معجزة تاريخية" بل كيان هش يواجه أزمات وجودية.
وأن المقاومة ليست "دمية في يد الموساد" بل قوة قادرة على كتابة التاريخ بدمائها، وبالتالي فإن الخيال الجميل يصلح للشعر، لكن الحروب تحسم بالواقع والبارود، لا بالأساطير والمؤامرات.
كما كتب الشابي: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر"، لكنه لم يقل إن القدر سيكون "مؤامرة صهيونية"!