أين اختفت جلسات المجتمع؟ لم تكن المجالس المجتمعية مجرد مكان للجلوس وتبادل أطراف الحديث، بل كانت ركيزة أساسية في تشكيل الوعي الجمعي، ومنبرًا للتعبير والتواصل الإنساني.
كان فنجان القهوة بداية لحوار قد يمتد لساعات، يمتزج فيه الثقافي بالاجتماعي، وتتداخل فيه الحكايات مع التحليلات، وتُصاغ من خلاله علاقات متينة بين أفراد المجتمع، أما اليوم، فتبدو تلك الجلسات وكأنها اختفت، أو تحولت إلى أثر بعد عين، في زمن تسوده الرقمنة والعزلة الناعمة.
لم تعد القهوة تُقدَّم كما في السابق، مصحوبة بنقاش مفتوح، ونظرات متبادلة، ولحظات صمت تُحترم، بل أصبحنا نلتقي خلف الشاشات أكثر مما نلتقي وجهًا لوجه، ونتحدث عبر الرسائل النصية أكثر مما نفعل بالكلمات الحية.
في خضم هذا التغيير الهائل الذي فرضته التكنولوجيا، تراجعت المجالس الثقافية، وذبلت معها روح الحوار الحقيقي، فحل محلها تفاعل إلكتروني سريع، سطحي أحيانًا، ومبتور في كثير من الأحيان.
لا يمكن إنكار فوائد الرقمنة، فهي قرّبت البعيد، ويسّرت المعرفة، وخلقت فضاءات جديدة للتعبير، ولكنها، في المقابل، ساهمت في تفكيك الكثير من الروابط الاجتماعية الحميمة، وأصبح الحديث الجماعي نادرًا، والإنصات فنًا شبه مفقود، وأضحى كل فرد في جزيرته الرقمية، يغذي خوارزميات منصاته، بينما تتآكل لديه القدرة على الحوار العفوي والمباشر.
جيل اليوم نشأ في بيئة مختلفة تمامًا، حيث يمكنه الوصول إلى آلاف الكتب والمقالات والمحاضرات بضغطة زر، لكنه غالبًا لا يجد من يجلس معه ليتبادل الأفكار، أو يناقشه بصبر في قضايا الساعة.
هذا الغياب التدريجي للمجالس والحلقات النقاشية أدى إلى ضعف في مهارات التعبير، وتراجع في تقاليد الحوار التي كانت جزءًا أصيلًا من ثقافتنا.
إحياء هذه المجالس لا يتطلب العودة إلى الوراء، بل إعادة توجيه البوصلة، نحن بحاجة إلى توازن بين التقني والإنساني، بين سرعة الوصول وعمق الفهم، المقاهي يمكن أن تعود لتكون فضاءً للحوار، لا مجرد محطة لتفقد البريد الإلكتروني.
الجامعات والمدارس تستطيع أن تخلق بيئات تشجع على النقاش المفتوح، لا الاكتفاء بالتلقي الصامت، حتى البيوت يمكن أن تُعيد لمتها الأسبوعية، بلا هواتف، مع قهوة، وحديث بلا انقطاع.
إن القهوة لا تزال تُعد كل يوم، لكنها فقدت دفأها الرمزي، فنجان القهوة الحقيقي ليس الذي نرتشفه أثناء تصفح الأخبار، بل ذاك الذي يُشارك مع الآخر، ويُصب في مجلس، وتدور حوله الآراء والأحاديث، المجتمع بحاجة إلى أن يتذكر تلك المجالس، لا كحنين للماضي، بل كحاجة إنسانية عميقة.
ربما آن الأوان لأن ندعو من حولنا إلى جلسة بسيطة، بلا تكلف، نعيد فيها بناء تلك المساحات الغائبة، جلسة نختلف فيها دون خصومة، ونتبادل الرأي دون قناع.
جلسة نعيد فيها للقهوة معناها الحقيقي: أن تكون بداية لحوار، لا نهاية له.
أستاذ علم الاجتماع الثقافي – كلية الآداب – جامعة طنطا
[email protected]