أين تقف مصر من هذه النيران المستعرة في الإقليم؟ نحاول أن نتبين موقعنا من كافة تلك التحديات، بتحليل المعطيات والمعلومات المتاحة، مصر متيقظة، واعية بحجم اللحظة، وبثقل دورها، لا تنخدع بشعارات اصطفاف لحظية، ولا تنجر إلى معارك جانبية، بل ترسم معالم موقفها برصانة دولة تدرك جيدًا أين تضع أقدامها، ومتى تتحرك، وكيف تحفظ أمنها وسط هذا الطوفان.
رغم تكاثر التحديات على أبواب المحروسة، بدءًا من توقف إمدادات الغاز من الشرق، إلى تقلبات أسعار النفط منذ بداية الحرب، ارتفعت أسعار النفط بنحو +7% فورًا، ثم توسعت إلى +11–14%، مع وصول الأسعار إلى مناطق الـ75–78 دولارًا للبرميل، إلى تحدي تأثر مصادر العملة الأجنبية "خطوط التجارة الدولية في قناة السويس وتحويلات المصريين بالخليج والسياحة"، وصولًا إلى شبح إغلاق مضيق هرمز، وارتفاع احتمالات الانزلاق إلى تطورات نووية كارثية في محيطها المباشر.
وكل هذا في ظل اقتصاد عالمي هش، يجعل من أي اضطراب في منابع الطاقة أو الملاحة الدولية تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، وتبقى الأوضاع عرضة للتدهور وسط أي تصعيد جديد.
وفي قراءة دقيقة لحجم التحدي، أعلن رئيس الوزراء خطة طوارئ وطنية، تمتد من مراجعة أولويات الإنفاق إلى قرارات مدروسة مثل تأجيل افتتاح المتحف المصري الكبير -ذلك الحدث العالمي الذي كان من المفترض أن يكون تتويجًا لسنوات من العمل في ملف الآثار والسياحة، لكنه لم يُقدَّم على اعتبارات الأمن القومي والاستعدادات الشاملة.
وفي الوقت نفسه، يواصل الرئيس المصري لقاءاته واتصالاته الدولية، يناقش فيها التداعيات الجيوسياسية للأحداث الأخيرة، منطلقًا من فهم عميق بأن الأزمة ليست محلية أو إقليمية، بل عالمية في امتداداتها وأثرها.
كما يتحرك وزير الخارجية في خطوط متوازية، يحمل رسائل مصر الواضحة: لا مغامرة، لا انفعال، لا انسياق خلف "الضجيج"، بل تمسك بثوابت الدبلوماسية، والرهان على "صوت العقل". ورغم أن الاستعدادات العسكرية المصرية لا تُعلن ولا يُتغنى بها، فإن المؤسسات الوطنية تقوم بواجبها كاملًا في صمت منضبط، رادعة لكل من يظن أن التحدي الأمني يمكن أن ينفذ من ثغرة.
حدودنا مؤمنة، وسماواتنا مفتوحة لاستيعاب تحويلات الملاحة الجوية بعد إغلاق مطارات المواجهة، لتحول مصر مجالها الجوي إلى "الملاذ الآمن" في قلب هذه الجغرافيا المشتعلة.
وفي حين يراهن البعض على انفجار الجبهات الداخلية في دول المنطقة، تتمسك مصر بتماسك جبهتها الوطنية، وتدرك أن أقوى سلاح في معركتها ليس فقط "سلاحها الذكي" ولا "جيشها القوي"، بل "وعي شعبها"، وصلابة "جبهتها الداخلية".
لا تعيد إنتاج الخطاب الدعائي، بل تخوض معركة بناء وعي، لا تنغلق خلف "شعاراتية المقاومة"، بل تدير معركتنا الأعمق: معركة الاستنزاف النفسي والاقتصادي والفكري، وتصنع معادلة ردع مختلفة، لا تقف عند العتاد، بل تبدأ من اليقظة.
ربما يكتب الآن خريف جديد من الفوضى، لكنها ترفع شعار لا للاستسلام، تسعى لصنع الفرق في محيط مظلم، وإحياء طائر الفينيق المحلق من رماد الاحتراق.
تعي أن المستقبل لا يكتبه من يمتلك ترسانة الصواريخ فقط، بل من يصوغ مشروعًا، ويؤمن بشعبه، لذلك استعدت الدولة لهذه التحديات منذ "30 يونيو 2013"، بامتلاك إرادة الفعل، وإعادة تأسيس دولة متماسكة عقب فوضى وانهيار.
لكن يظل تحدي المشروع القومي العربي غير واضح المعالم، هل انتهى عصر القومية؟ أم يعيد تشكيل المشهد، ونرى "الإفاقة الكبرى"؟ هذه ليست أزمة عابرة، بل لحظة تهدد وجود أمة ومصير أجيال، ما نعيشه اليوم ليس تكرارًا لتقلبات ماضية، بل اختبار حقيقي لقدرتنا كعرب ولا استثني منا أحدًا -حكومات ومجتمعات ونخب- على الانحياز لمشروع قومي جامع، لا يحمي فقط تاريخنا وهويتنا، بل يصون مصالحنا وحاضرنا، ومستقبلنا ومواردنا، ونقاط قوتنا المبعثرة، إما نظل شعوبًا مستهلكة للتاريخ، أو صانعة للمستقبل.
والمطلوب اليوم ليس "إجماعًا شعاراتيًا"، بل تحالف عقلاني متين، يقف على أرض "المصالح المشتركة"، ويؤسس لتجمع حقيقي في القرار والسيادة والأمن الغذائي والمائي والتقني، متطلباته تبدأ بالوعي بخطورة اللحظة، ورهان على رعاية مشروع قومي من كافة المؤسسات، بداية من الإعلام المطالب بالتخلي عن مبادئ "النيران الصديقة"، التوقف عن الانبهار والاصطفاف، ارتداء عباءة الإستراتيجية والتحليل وكشف المخططات، لا للتحريض، ولا للتهويل، ولا لبيع الأوهام، بماذا أفادت حروب تكسير العظام المتبادلة بتقليل أي إنجاز عربي، في مقابل دعم مشروعات غربية، حتى فقدنا إيماننا بجدوى ما يجمعنا من موقع ولغة ودين ومصالح مشتركة!
مطلوب من التعليم والثقافة أن يعودا إلى الصدارة، فلا بقاء لأمة لا تحترم عقلها ولا تحصنه بانفتاح متعقل، يقود أبناءها نحو الإنتاج والتفكير. مطلوب من النخب أن تتوقف عن جلد الذات أو انتظار المخلص من الخارج، فالمعركة لا تخاض إلا من الداخل، والعدو-كما نتابع- لا ينتصر إلا عندما نيأس من أنفسنا، أو نفقد الثقة ببعضنا، أو نصدق الخائن المشكك في كل أمل، ونمكنه من طعن ظهر الوطن.
ربما آن الأوان لإعادة تعريف "القومية"، لا كشعارات من زمن مضى، بل كمنظومة دفاع حديثة، حتى وإن لم تكن عسكرية، يكفي أن تصدر "الوعي الجمعي" حتى لو صعب "التكامل الاقتصادي"، وبين صيانة الهوية والانفتاح على العالم بشروطنا نحن، لا بشروط من يفتعل الأزمات، ليعيد ترتيب الشرق كما يحلو له؛ بهدف تأسيس قوة إقليمية تخدم مصالحه، بينما ما زلنا نستطيع تأمين الشرق الأوسط بقدرات فكرية تحمي منطقتنا، لا من عدو خارجي فقط، بل من الانهيار الداخلي.
صحيح بين "الأسد الصاعد" و"الوعد الصادق"، تكتب صفحة جديدة من تاريخ المنطقة، لكن الصفحة المقبلة لا يكتبها من يملك الصواريخ فقط، بل من يملك الفكر والرؤية، والحق، والناس، وسنرى من منهما يملك نفسًا أعمق يمكنه من النجاة من الغرق في طوفان تلك المعارك.