في مغامرة أدبية جريئة تُعيد تعريف السيرة الذاتية وتهدم القوالب التقليدية، أصدرت الكاتبة سحر الحسيني كتابها الجديد "عوالم مي زيادة الخفية" عن دار سما للنشر والتوزيع، في صيغة إبداعية مزدوجة تمزج بين السرد الأدبي العميق والسيناريو المشهدي الحي، لتقدم صورة غير مسبوقة للأديبة الكبيرة مي زيادة، كإنسانة وامرأة وصوت هشّ ظل لسنوات مختبئًا خلف رماد المجد.
موضوعات مقترحة
وقد استهلت الكاتبة سحر الحسيني عملها الأدبي بهذه المقدمة اللافتة:
"لم تكن مي زيادة امرأةً كما عرفها المجتمع، بل كانت رشفةً تُطل منها الروحُ على ما وراء العالم، كانت سؤالًا رماديًّا عن جدوى الحياة حين تتحول المعرفة إلى عبءٍ، والحساسية إلى لعنةٍ، والحلم إلى سيفٍ ذي حدّين.
لقد عاشت مي في قلب مفارقةٍ وجودية لم يدركها الكثيرون؛ كيف يمكن لعقلٍ أن يكون شديد الرثاء، ولقلبٍ أن يكون شديد الامتلاء، ثم ينتهي بهما المطاف في وحدةٍ صماء؟ كيف تتحول امرأةٌ وهبت نفسها للحياة، إلى منفى داخل ذاتها؟
مي لم تكن مجرد كاتبة، تحكمها الظروف، بل كانت تجربةً إنسانية تتجاوز الزمن، محكومةً بالفكرة قبل أن يوجد لها شيءٌ يستحق أن يُكتشف.
كانت تنتمي لكل شيءٍ، لكنها لم تجد انتماءها في أي شيءٍ، تكتب عن الحب كأنها تخلقه، عن الوحدة كأنها تغزلها من نورٍ وظل، وعن الغياب كأنها تسكنه. لم تكن تحاور جبران وحده، بل كانت تحاور العالم بأسره، كأنها تبحث عن كائنٍ يفهم لغة الحنين المتوحشة التي ترسي في عروقها.
ولأن الحياة لا تمنح الاستثناءات، انتهت مي في الغياب كما عاشته في الحضور. لم يكن رحيلها مجرد حدث، بل كان امتدادًا طبيعيًّا لوجودها. كانت ظاهرةً أدبية وفكرية وعاطفية يصعب أن تتكرر، وحتى حين انطفأت، لم يكن انطفاؤها عاديًا، بل كان بريقًا آخر.
لقد حاولت أن أكتبها، لكن مي ليست نصًا يُكتب، بل حياة... كنجمٍ قرر أن يضيء للحظةٍ أخيرة قبل أن يختفي في المجهول. تُشعر، وجمرةً تحت الرماد، تشتعل كلما اقتربت منها الأرواح العطشى للفهم."
في قلب هذا العمل تظهر شخصية "ليل الجرواني"، الصحفية التي تعيد إحياء مي من عزلتها، في مشاهد حيّة تشبه الخيال وتلامس الواقع، تفكك فيها ليل نسيج الأسطورة، لا لتدحضه، بل لتفهمه، وتعيد بناءه من لحم الشعور لا من خيوط المجد المحنّط.
الكتاب لا يُصنف كرواية تقليدية، ولا كتحقيق صحفي، بل هو رحلة ذات خصوصية شديدة، تأخذ القارئ بين الوعي واللاوعي، بين مي كما عشناها في كتبها، ومي كما لم يرها أحد من قبل.
وفي لمسة فنية رفيعة، أعلن الفنان التشكيلي العالمي، أستاذ الفنون الجميلة بجامعة أوكرانيا، وسفير فلسطين للسلام، الدكتور جمال بدوان—صاحب أكبر لوحة زيتية في العالم المسجلة بموسوعة غينيس بعنوان "تسامح الأديان"—عن تأثره العميق بالعمل، ليُهديه الغلاف من ريشته الخاصة، قائلًا:
"كنت أظن أنني أعرف مي زيادة التى تحمل نفس فصيلة دمي الفلسطينية ، لكن الحسيني أخذتني من يدي إلى شوارع لا أعرفها في قلب زيادة، وأماكن شعورية بداخلها لم أصل إليها من قبل".
وهكذا، التقت ريشة بدوان بلغة الحسيني، لتتماهى الصورة بالكلمة، ويلتقي الفن التشكيلي بالأدب الحي، ويولد غلاف هو امتداد لما كتبه القلب قبل أن تكتبه اليد.
"عوالم مي زيادة الخفية" هو الإصدار الثاني لسحر الحسيني بعد مجموعتها القصصية المميزة "ليس كل الخبز يُشتهى"، لكنه في جوهره حدث أدبي نادر، يُقرأ كمرآة، ويقرؤك في المقابل.
إنه عملٌ لا يعيد اكتشاف مي فحسب، بل يعيد اكتشاف قارئها أيضًا.